يتوقع أن يتخذ اليوم قادة الأحزاب والهيئات والمنظمات الكردية قرارهم بالانسحاب من حكومة اياد علاوي وعدم المشاركة في الانتخابات المقبلة ومقاطعة إدارات «الدولة» الجديدة في المرحلة الانتقالية.
المسألة خطيرة وتحتاج إلى قراءة حتى لا تنهار بقايا دولة تعرضت للاستبداد طوال ثلاثة عقود وتتعرض الآن للتفكيك بعد احتلال زعزع الاستقرار وشحن الأجواء بالمزيد من الكراهية وفقدان الثقة بين أبناء الشعب الواحد.
بدأت المشكلة عندما هدد القادة الأكراد بمقاطعة الانتخابات المقررة في يناير/ كانون الثاني 2005، إذا لم تعترف الأمم المتحدة بقانون «إدارة الدولة» المؤقت الذي صدر في مارس/ آذار الماضي. واشترط قادة الأكراد إدخال القانون في نص قرار مجلس الأمن أو اجبار الحكومة الجديدة (المعينة من الاحتلال) على الاعتراف به كقانون ملزم بغض النظر عن نتائج الانتخابات ولعبة الغالبية والأقلية.
لم يوافق المرجع الديني السيدعلي السيستاني على هذا الطلب ورد بتهديد مجلس الأمن من أية إشارة إلى القانون المذكور حتى لا يعطى شرعية دولية قبل أن يقرر الشعب العراقي المسألة في انتخابات حرة ونزيهة.
وحين تبنى مجلس الأمن القرار 1546 لم يتضمن إشارة الزامية بقانون «إدارة الدولة» تاركا للحكومة الجديدة اتخاذ القرار المناسب. ورد القادة الأكراد على عدم الاستجابة لطلبهم بالتهديد بالانفصال وهي خطوة إذا حصلت فستعرض مستقبل العراق «كدولة موحدة» للخطر وربما استدرجت «الأقليات» الأخرى إلى المطالبة بإنشاء دويلات (جغرافية - سياسية) تتناسب مع أحجامها ومواقعها. وهذا الأمر في حال حصوله فمعنى ذلك أن المنطقة كلها وتحديدا «دول الجوار» معرضة لطلبات مشابهة. فالمشكلة إذا كبيرة وليست محصورة في الجانب الكردي (العراقي) وانما يمكن أن تنتشر لتنتقل إلى الدول المجاورة لتعود منها أيضا إلى العراق.
المسألة ليست بسيطة وهي معقدة سياسيا وتتجاوز إطار حقوق «الأقليات» لتطاول أمن المنطقة وحدودها الجغرافية وكياناتها وامتدادات الأقليات داخل الأقطار المجاورة واحتمال تدخل الدول الإقليمية لحماية حدودها الأمر الذي يضيف عقبات جديدة أمام تطور المنطقة ونموها الاقتصادي واستقلالها السياسي.
رجّحت المصادر الكردية أن يتخذ اليوم قرار الانسحاب من حكومة اياد علاوي على رغم أن الأخير جدد اعترافه بالقانون وأكد التزام حكومته به. وبعيدا عن تفصيلات الحدث والاحتمالات المفتوحة على أكثر من جهة يفضل ألا يتخذ قادة الأكراد مثل هذه الخطوة نظرا إلى نتائجها السلبية ليس على العراق فقط وإنما على استقرار المنطقة ومستقبل الأكراد أيضا. وآخر ما يحتاج إليه العراق المحطم هو مثل هذا التهديد الذي يزيد ضعفه ضعفا.
المسألة معقدة وتحتاج إلى عقل كبير لحلها وكذلك إلى نزعة إنسانية تميل نحو «التسوية التاريخية» حتى لا تتحول قضية الأكراد من مظلومين إلى «ظالمين». فالظلم الذي لحق بالأكراد - وهو الشعب المسلم الطيب والمقاتل - لا يتحمل مسئوليته العراق وإنما نظام الاستبداد الذي عانى منه كل العراق في مختلف مناطقه وطوائفه وصولا إلى عشيرة صدام. فالاستبداد لم يفرق بين عربي وكردي وصدام لم يوفر فئة من ظلمه حتى أزواج بناته وآباء أحفاده.
لاشك في أن الأكراد (وتحديدا أكراد العراق) يستحقون أكثر مما يطالبون به. ويكفي هذا الشعب أنه قدم الكثير من التضحيات لنصرة الأمة طوال تاريخه. ويكفي أنه أعطى الناصر صلاح الدين الأيوبي الذي قاد جيوش المسلمين لتحرير مدن بلاد الشام والقدس من احتلال ممالك الفرنجة.
التاريخ هو علم، ووقائع التاريخ يجب ألا تنسى حتى لا يظلم شعب أو تؤخذ فئة مظلومة بجريرة فئة مظلومة. فالشعب العراقي كله مظلوم وهذه فرصة تاريخية للتسوية ولإعادة إنتاج وحدة المظلومين من كل المناطق والفئات والطوائف وليس على أساس المحاصصة (توزيع المغانم) وانما على أساس الحقوق من دون تمييز بين مواطن ومواطن.
إنها فرصة للتفكير وإعادة إنتاج تسوية تاريخية تأخذ حقائق الجغرافيا في الاعتبار وتغلب مصالح الوحدة (المستقبل) على النعرات الضيقة (الماضي). فحقائق التاريخ والجغرافيا أقوى من السياسة، والأكراد يستحقون أكثر مما تطالب به المجموعات الحزبية. فالحقوق الكردية هي شرعية وليست مكتسبة فقط، فهي جزء من التاريخ والجغرافيا وأكبر بكثير من أن تكون مجرد صفقة سياسية. والعراق الذي يحاول استعادة قواه للنهوض مجددا بعيدا عن الاستبداد والاحتلال يحتاج إلى عون الأكراد لانتزاع السيادة كدولة واحدة موحدة. وهذا حديث آخر
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 645 - الجمعة 11 يونيو 2004م الموافق 22 ربيع الثاني 1425هـ