العدد 645 - الجمعة 11 يونيو 2004م الموافق 22 ربيع الثاني 1425هـ

ديفيد البريطاني ليس محظوظا كأشباهه في بلداننا

خواطر لندنية

منصور الجمري editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

عشت في بريطانيا وعاصمتها لندن كثيرا، ولكنني مازلت أجد الجديد فيها كلما زرتها، وهكذا كان حالي في 7 يونيو/ حزيران الجاري عندما توجهت الى وزارة الخارجية البريطانية لاجراء مقابلة مع وزير الدولة مايك أوبراين حول موضوع الاصلاح في الشرق الاوسط.

وصلت وزارة الخارجية قبل الموعد لأنني احتطت في الخروج مبكرا، وقررت أن أمشي في الشارع الرئيسي الذي يقع فيه البرلمان والوزارات ومنزل رئيس الوزراء وينتهي بساحة ترافلغر (الطرف الاغر). مررت بالقرب من شارع «داونينغ ستريت» الذي يسكن فيه رئيس الوزراء البريطاني، وشد انتباهي شخص بريطاني في الخمسينات من عمره لبس بدلة وجلس على كرسي مقابل شارع داونينغ ستريت. خلف الكرسي وضع لافتتين يحتج فيهما على الحكومة البريطانية لأنها انتهكت حقوقه. بدأت أقرأ اللافتتين وهو جالس ينظر إليّ منتظر أن أسأله عن قضيته.

بعد خمس دقائق من قراءة نص الاحتجاج لم أفهم على ماذا كان يحتج فسألته: ما هي قضيتك؟ سارعني بالاجابة: «أنا اخترعت 83 اختراعا وطرحت نظريات جديدة وأرسلت اختراعاتي إلى وزارة الدفاع البريطانية (ثم الأميركية) وإلى مكتب براءة الاختراع وإلى المحاكم البريطانية وإلى مرصد الابحاث الفضائية، ولكن جميع هذه المؤسسات رفضت لقائي ومناقشة اختراعاتي وأنا اعتبر هذا انتهاكا لحقوقي الانسانية ولذلك فأنا اعتصم ثلاثة أيام في الاسبوع أمام منزل رئيس الوزراء، أطلب منه أن يتدخل لدى الجهات المعنية لكي ترد عليّ».

«ثلاثة وثمانون اختراعا... هذا شيء عظيم... ما هي هذه الاختراعات؟» اسئلتي كان نصفها جادا... ولكنه كان جادا مئة في المئة... وجاوبني: «نعم 83 اختراعا وهي تشمل اختراعا لأجهزة مواسير جديدة للمنازل، ومركبة تسير على الوقود النووي في الفضاء الخارجي، بالاضافة إلى اكتشافي نظرية بديلة عن بداية الكون تختلف عن نظرية «بيغ بانغ» وهي اكثر عقلانية ووضوحا... وأنا اطلب من الجهات المعنية أن ترد عليّ وتسجل اختراعاتي وإلا فإنني سأواصل اعتصامي أمام منزل رئيس الوزراء».

«عظيم...» رددت عليه، ولكن أرني بعض هذه الاختراعات. اكتشفت أن خلفه شنطة سفر قديمة (شبه ممزقة) مملوءة بعدة ملفات ضخمة تحتوي على مراسلاته ورسوماته وشروحاته للاختراعات الـ 83 التي يتحدث عنها.

«أرني ما لديك...». فتح الملفات واحدا بعد الآخر، جميعها مرسومة ومكتوبة باليد والرسائل مكتوبة باليد، ما عدا الردود المطبوعة بالكمبيوتر والتي كان يتسلمها من مكتب براءة الاختراع للاعتذار عن قبول ما يرسل لهم، ورسالة من السفارة الأميركية تعتذر عن قبول اختراعاته.

«... أرني أكثر، ماذا لديك...؟»... «تفضل، هذه نظريتي التي تشرح بداية الكون وهي افضل من نظرية بيغ بانغ...» تسلمت ثماني اوراق (فقط ثماني أوراق) مكتوبة باليد كتب عليها «الانفراج الزمني، نظرية من اكتشاف ديفيد تشارلز وايت تشرح كيفية نشوء الكون».

«هل بامكاني الاحتفاظ بنسخة من هذه النظرية؟»... «بالتأكيد تفضل...». ولكن لو أحببت أن ارسل لك جوابا الى أي عنوان ارسل جوابي؟... «ليس لدي عنوان حاليا، ارسله الى عنوان رئيس الوزراء البريطاني (10 داونينغ ستريت، ويستمنستر، لندن) واكتب على الظرف: الى الشخص الذي يعتصم مقابل الشارع ثلاثة أيام في الاسبوع».

... ولكن ما هي خبرتك؟ وما دراستك؟ وأين كنت تعمل؟

«لقد كنت أعمل في أحد المصانع وتركت العمل في المصنع لكي أتفرغ للاختراعات»! ... «عظيمٌ ما فعلت، ولكن لماذا لم يردوا عليك؟».

«لم يردوا عليّ لأن هناك سياسة لانتهاك حقوق الانسان واحتقاره وعدم الرد عليه، وهي سياسة تشترك فيها بريطانيا وأميركا والأمم المتحدة، وبسببها فإن لدينا صمتا عن المجازر التي حدثت أيام هتلر...».

«... نعم... تقصد هذه الأيام؟»... «لا، هناك صمت وانتهاك لحقوق الانسان، والدليل أنهم لم يردوا عليّ وأنا ذهبت الى أعلى المحاكم البريطانية لكي اجبر رئيس الوزراء على أن يرد عليّ، ولكن حتى المحاكم متآمرة معهم...».

«ولكن... يا ديفيد منذ متى وأنت تحتج؟»... «أنا بدأت الاحتجاج في العام الماضي واعتصمت طوال موسم الصيف ثلاثة أيام في الاسبوع، وأنا سأواصل اعتصامي هذا الموسم ايضا».

«... ولكن يا ديفيد، هل جاء احد من منزل رئيس الوزراء ليتكلم إليك؟». «لا... لم يكترث احد منهم، ولكني اشك في أن احد أفرادهم يأتي يسترق النظر على لافتات الاعتصام لكي يبلغهم بما اعترض عليه...».

حسنا... اذا لماذا لم يجيبوك؟... لأن هناك مؤامرة وصمتا وانتهاكا لحقوق الانسان...!

... ولكن يا ديفيد انت تجلس في هذا الشارع المملوء بالوزارات، وعندك الشارع القريب وهو على بعد خمس دقائق مشيا على الاقدام، اذ يوجد عدد من المعاهد الهندسية، وهذه المعاهد هي المعنية بهذه الأمور، واذا اقتنعت باختراعاتك فهي التي تسجلها وهي التي تنشرها، فهذا شغلها وليس شغل موظفي الوزارات أو رئيس الوزراء.

«صحيح؟ لم أدر أن هناك معاهد هندسية... لم أفكر في الأمر ابدا...!»، اذا... الآن تعلم بأن هناك معاهد هندسية وايضا هناك جامعة كامبريدج وفيها وحد من أكبر علماء الفيزياء اسمه «البريفسور ستيفن هوكنغ» واذا كان لديك احتجاج على نظرية «بيغ بانغ» فلابد أن تقنغ هوكنغ أولا، واذا اقتنع فهو سيقوم بنشرها في كل انحاء العالم»... «صحيح؟ لم ادر ابدا بهذا الامر او بهذه المعلومات من قبل ...!».

اذا ديفيد أنت تعلم الآن هل ستنهي اعتصامك وتذهب إلى المعاهد الهندسية أو الى جامعة كامبريدج بدلا من تضييع وقتك؟

«لا أدري... ولكني اعتصم هنا ضد المؤامرة وانتهاك حقوقي وعدم الرد عليّ وعدم اجبار المحاكم رئيس الوزراء أن يجيبنى... إلخ».

حسنا... ديفيد هل انت تحتج على عدم قبول اختراعاتك، أم على انتهاك حقوق الانسان؟ «عدم قبول الاختراعات هو الانتهاك لحقوق الانسان...».

... «أوه ديفيد لدي موعد الآن ولازم امشي وأأمل أن يرد عليك طوني بلير ويتوقف عن انتهاك حقوقك...». «وأنا أأمل ذلك، وسأواصل الاعتصام حتى يستجيب للمطالب ويتوقف عن انتهاك الحقوق...». مع السلامة، مع السلامة.

مشيت عنه بينما كان أحد عمال الطرق ينظر ويستمع الينا ويهز رأسه ضاحكا، بينما «ديفيد» لم يضحك ابدا وأنا مسكت نفسي عن الضحك ايضا لكي لا يتهمني بانتهاك حقوقه ويوجه غضبه من رئيس الوزراء البريطاني اليّ... ولكن ديفيد شغل بالي كثيرا... وتساءلت: كم «ديفيد» لدينا في بلداننا؟ وما الفرق بين ديفيد البريطاني واشباهه في بلداننا؟

راجعت ما قاله وكيف كان يتحدث وهو جاد في حديثه؟ وكيف جمع أوراقه و«نظرياته» و«اختراعاته» في شنطة شبه ممزقة، وكيف جلس على كرسي ربما كان عمره أكبر من عمر الجالس عليه... كيف ولماذا كان مقتنعا بأن أميركا وبريطانيا والأمم المتحدة يتآمرون عليه؟ وكيف كان يطرح الامثلة والأدلة عن صمت العالم عن مذابح هتلر.

بعد تفكير في الامر، وجدت أن ديفيد البريطاني موجود لدينا بكثرة، مع فارق بسيط. ديفيد البريطاني لا يضر احدا ويجلس على جانب الطريق ولا يتبعه أحد من الناس ولا يهلك الحرث والنسل... بينما اشباه ديفيد في بلداننا العربية يتبعهم بعض الناس، أو أن لديهم سلطات وكراسي (غير قديمة) ويتحدثون امام الجماهير وفي الاذاعة والتلفزيون وفي الصحافة وفي كل محفل، أهلي أو رسمي... وعلى عكس ديفيد المسكين الذي لا يصدقه احد، فإن اشباه ديفيد في بلداننا محظوظون جدا لأن لديهم من يصدقهم ويضيع حياته مصفقا ومؤيدا ومناصرا وصارخا ورافعا شعارات مدوية ومعلقا على كل شيء في هذه الدنيا، وكأنه مركزها الابدي ومحورها وقطبها واساس وجود البشرية فيها

إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"

العدد 645 - الجمعة 11 يونيو 2004م الموافق 22 ربيع الثاني 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً