لماذا تراجع المسلمون وتقدم الغرب؟ ماذا خسر العالم من تخلف المسلمين؟ كيف يتقدم العالم الإسلامي؟ أين الخطأ؟ وغيرها، أسئلة كثيرة.
الأسئلة المذكورة هي مجرد عناوين لكتب صدرت في القرن الماضي وحاولت الإجابة عن أسئلة «لماذا» و«ماذا» و«كيف» و«أين» وغيرها من كتابات اشتغل عليها قادة الفكر الإسلامي (والعربي) في فترات زمنية متفاوتة. وفي النهاية كلها تعكس هواجس القلق من انهيار الحضارة الإسلامية.
الأسئلة المذكورة مذعورة من التقدم الذي حققه الغرب في وقت كان بإمكان الإسلام أن يقود الحضارة كما سبق وحققه السلف على امتداد 1300 سنة من الزمن. أسئلة مذعورة تدور حول سؤال واحد: «لماذا؟». لماذا الغرب وليس الإسلام؟ وماذا يملك الغرب ما لا يملكه الإسلام؟ وما الدوافع التي أطلقت الغرب من تخلفه، وما الموانع التي عطلت إمكانات التقدم في الجانب الإسلامي؟
أسئلة كثيرة وفي غالبيتها انطلقت من القلق على الإسلام وحضارته. واستدعت تلك الأسئلة المذعورة أجوبة قلقة ومتوترة يسيطر عليها الخوف من المستقبل أو الخجل من الماضي.
اختلفت الأجوبة إلا أن المخاوف كانت مشتركة بين سؤال وآخر وحتى الآن لاتزال الأسئلة المذعورة يعاد انتاجها واطلاقها مجددا وتأتي الأجوبة أيضا متشابهة وتعبر في النهاية عن مخاوف وتشتت وهواجس تؤرق السائل قبل أن يجيب.
منذ أكثر من 150 سنة يعاود المفكرون العرب (المسلمون) إعادة إنتاج الأسئلة نفسها وتدوير الأجوبة من دون قدرة على التوصل إلى جواب شافٍ لسؤال «لماذا؟». والسبب بسيط وهو أن سؤال «لماذا» لا معنى له أساسا. كذلك الأجوبة لم تكن على سوية الأزمة. فالأزمة أعمق من السؤال وأيضا الجواب لا يصيب البعد الحقيقي للأزمة.
وحتى نستطيع التوصل إلى فهم واقعي للمشكلة لابد من تبسيط السؤال، أو على الأقل وضعه في سياق زمني (تاريخي) يعطي للتحولات الكبرى (القفزات) معناها ومبناها.
السؤال نفسه يمكن بسطه وطرحه على عشرات الأزمنة والأمكنة. لماذا انهارت الحضارة الصينية القديمة مثلا؟ ولماذا انهارت الحضارة الهندية واليونانية والرومانية؟ وأيضا وقبل تلك الحضارات لماذا انهارت الحضارات الأكادية والسومرية والفرعونية والآشورية والكلدانية والكنعانية (الفينيقية) والدلمونية وغيرها وغيرها من ثقافات استمرت مئات وبعضها عشرات المئات من السنين وأعطت البشرية أو أورثتها الكثير من العلوم والمعارف التي لاتزال تستخدم حتى أيامنا.
السؤال إذا يجب إعادة تدويره ليصبح كالآتي: لماذا تتوقف حضارات عن العطاء؟ ويمكن وضع السؤال بترتيب مختلف: كيف يمكن أن تتوقف حضارة عرف عنها في أوقات معينة النشاط والحيوية ثم فجأة أو بالتدرج الزمني تتوقف عن تقديم الجديد وتأخذ بتكرار نفسها إلى أن تتلاشى وتضمحل؟
ترتيب طرح السؤال يساعد كثيرا على قراءة موضوعية (واقعية - زمنية) تسعف على انتاج أجوبة معقولة (عقلانية) لا تسيطر عليها هواجس الخوف والقلق والتوتر وعدم وضوح الرؤية من المستقبل أو الخجل من الماضي.
القلق أو السؤال المذعور يعطل كثيرا إمكانات الشرح والتفسير ويدفع الأجوبة نحو استنتاجات متسرعة يغلب على بعضها التشاؤم وعلى بعضها التفاؤل، ولكنها في مجموعها لا تعطي الجواب الواقعي (الزمني - العقلاني) على سؤال: لماذا؟
لماذا تبدأ من كيف. سؤال كيف قيض لشعوب أن تلعب دورا حاسما في التاريخ البشري وصناعة الحضارة الإنسانية ثم تستقيل فجأة أو يتراجع دورها وتبدأ باستهلاك ما ينتجه غيرها لتنتقل بعدها من المتن إلى الهامش.
هذا «الكيف» استهلك مئات الكتب وكتبت عنه الآلاف من الدراسات والبحوث ولم تتوصل حتى أيامنا إلى أجوبة واضحة. فهناك اختلافات في وجهات النظر وهناك قراءات مختلفة لمسار الحضارات نفسها.
بعض المؤرخين اختزل الحضارات الإنسانية إلى سبع حضارات كبرى (منها الإسلام طبعا) تولدت منها عشرات الحضارات الصغرى. وبعض المؤرخين رفض الاختصار إلى سبع حضارات وعدد 24 حضارة عالمية أسهمت في تطور الإنسانية على مر العصور.
صاعد الأندلسي (المؤرخ الفيلسوف) أقدم على المحاولة الأولى المتكاملة لتأريخ تطور الحضارات وانتقالها من مكان إلى آخر. فصاعد حاول في كتابه الاستثنائي من نوعه (طبقات الأمم) أن يقرأ تاريخ الحضارات طبقة وراء طبقة فبدأ من الصين إلى الهند وفارس وبلاد الرافدين ومصر واليونان والرومان والعرب وصولا إلى الإسلام، ثم من الإسلام إلى العالم وانتهاء في الأندلس وهو المكان الذي كان يؤلف فيه الكتاب.
بعد صاعد الأندلسي بنحو 800 سنة جاء الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل وأرّخ تاريخ الحضارات فلطّش (سرق) فكرة كتاب صاعد وأعاد انتاج فصوله بأسلوب فلسفي (ديالكتيكي) فقرأ أيضا تاريخ الحضارات من الشرق إلى الغرب (مثل صاعد) فبدأ من الصين وانتهى في الفترة البروسية (الجرمانية) أي في المكان الذي كان يؤلف فيه الكتاب.
تاريخ الحضارات مسألة مهمة ومكان كتابة التاريخ لا تقل أهمية في كتابات المؤرخ - الفيلسوف. فصاعد انتهى تاريخه في الأندلس (غرب البحر المتوسط) وفي أيامه لم تكن أوروبا الشمالية اكتشفت نفسها وكذلك لم تكن أميركا اكتشفت. فبعد الأندلس هناك بحر الظلمات (المحيط الأطلسي في أيامنا) وهو مساحة مائية مجهولة لصاعد. وتاريخ هيغل انتهى في شمال أوروبا حين كانت القارة تشهد فترة مزدهرة أسهمت في صوغ بعض جوانب شخصيتها حركة الإصلاح الديني التي قادتها البروتستانتية (اللوثرية) في شمال أوروبا وغربها ضد جنوبها الكاثوليكي وشرقها الأرثوذكسي.
آنذاك اعتبر هيغل، مثله مثل صاعد، أن نهاية التطور الزمني وأرقى أشكاله الحضارية هو تلك الدولة (الجرمانية - البروسية) التي كان يعيش في ظلالها. واعتبر أيضا أن الاكتشافات الجغرافية التي أودت إلى أميركا فتحت الطريق أمام تطور جديد لم تتبلور شخصيته، ولكنه توقع (وهذا هو المهم) أن تلعب الولايات المتحدة دورا متميزا في التاريخ نظرا إلى تركيبها السكاني الأوروبي - الديني. فأميركا في نظر هيغل دولة دينية تختلف في طبيعتها وموقعها عن الدول الأوروبية التي عرفها أو درس تكوينها. وتوقف تاريخ هيغل في بروسيا الجرمانية وأشار إلى احتمالات غريبة - عجيبة في حضارات دول ما وراء البحار التي اكتشفت حديثا، ولم يضعها ضمن مخططه للتطور الحضاري.
صاعد توقف في الأندلس (غرب العالم ونهايته في عصره) وهيغل توقف في بروسيا (غرب العالم ونهاية الشمال في عصره)، وانتهى التاريخ عنده ليبدأ من جديد وفي مكان آخر. فصاعد لم يفكر لحظة أن الأندلس ستسقط وأن بحر الظلمات سيفتح العالم على آفاق جديدة. وكذلك هيغل لم يفكر لحظة أن دولته (بروسيا الجرمانية) ستمر بدورها في طورين: الصعود ثم الهبوط لتنتقل من ألمانيا (غرب شمال أوروبا) إلى أميركا غرب المحيط الأطلسي وفي نهاية بحر الظلمات.
التاريخ لا يرحم فهو مستمر في تقدمه إلى ما لا نهاية أو إلى أمر «كان مفعولا». والنظرة إلى التاريخ بعيون زمنية تخفف الكثير من الأثقال والهموم وتعطي فسحة للأمل.
صاعد الذي فكر في أن الحضارات بدأت من الشرق (الصين) ووصلت إلى الغرب (الأندلس) لم يفكر مثلا في أنها ربما ستعود يوما ما ومرة أخرى إلى الصين (ستصبح الدولة الأولى اقتصاديا في العالم في العام 2024). وهيغل الذي فكر في مخططه التاريخي (لم يذكر صاعد في كتابه أبدا) أن الحضارات بدأت أيضا من الشرق (الصين) ووصلت إلى الغرب (انتهت في بروسيا الجرمانية) لم يفكر أن الأرض (الزمن) ستدور دورتها الكبرى وتعود مجددا إلى حيث بدأت (الشرق/ الصين). وعلى منوال صاعد وهيغل يفكر في أيامنا فوكوياما في أن أميركا (نظامها) هو نهاية التاريخ، وأن التاريخ سيتوقف بعد أميركا. ولكن الزمن أقدم من أن يتوقف عن حركته. وما حصل سابقا مع صاعد وثم هيغل سيتكرر مع فوكوياما. فهيغل أيضا اعتبر أن الغرب هو الشيخوخة ونهاية تطور الحضارة، والآن تعود الشمس لتشرق من جديد من مهدها الأول.
هذا هو التاريخ وهذه هي وقائعه وأحكامه. فالزمن باقٍ والحضارات تقوم وتنهض وتتلاشى وتضمحل. الزمن يستمر بينما الحضارات تزول أو تتوارث أو تنتقل أو تعاود إنتاج نفسها. وكل حضارة عندها قدرة على التوليد لا تنتهي. والإسلام هو دين حضاري يملك من المناعة والممانعة والعناصر المولدة للجديد. وما يميز الإسلام عن غيره هو قدرته على توليد الحضارات وتوليف الثقافات ودمجها وإعادة انتاجها. والصين في هذا المعنى ليست سوى المثال على إمكانات التجديد والتوليد.
هذا جانب من الإسلام. والجانب الآخر هو التعب الزمني من سباق الحضارات. فالحضارة كالإنسان تتعب وتمر بفترات الطفولة والشباب والكهولة والشيخوخة، وأخيرا إما أن تموت تاركة مكانها لآخر أو تتوالد (تتكاثر) لتعيد إنتاج حضارتها بأشكال أرقى من السابق. والإسلام هو من الحضارات المتوالدة التي لا تموت حتى لو أصابها التعب وضربتها الشيخوخة. والسبب في قدرة الإسلام على التوليد (الانجاب) هو أن حضارته تقوم على الكتاب... والحضارات الكتابية تملك مقومات التكيف والاكتساب والأخذ والرد. وهذا ما يميز الحضارات الكتابية عن الحضارات الحجرية.
الأسئلة المذعورة، أسئلة سيئة نفسيا على رغم براءة منطقها وصدق من طرحها. إنها أسئلة الخوف والهواجس والتوجس من المستقبل والخجل من الماضي.
أسئلة الذعر أسئلة اليأس. واليأس سم الحضارات... والإسلام في معناه الزمني تعب من السباق، ولكنه لايزال يملك الأجوبة على التحدي. وهذا سر مقاومته لأنه ينظر إلى التاريخ بعيون الزمن. «لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله». هذا حديث للرسول (ص)
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 644 - الخميس 10 يونيو 2004م الموافق 21 ربيع الثاني 1425هـ