العدد 642 - الثلثاء 08 يونيو 2004م الموافق 19 ربيع الثاني 1425هـ

بوش...التفاف تكتيكي وحسابات انتخابية

فكتور شلهوب comments [at] alwasatnews.com

تريد إدارة الرئيس بوش أن توحي بأنها «غيرت جلدها»، فيما يتعلق باحتلالها العراق وتعاملها مع المنطقة عموما. ففي الآونة الأخيرة أخذت تخفف من لهجة خطابها وتحرص على ابداء ليونة ونبرة حوارية تعاونية. كما اتخذت خطوات ومواقف لا تتفق، إن لم نقل تتعارض، مع ما سبق واعتمدته من سياسات وتوجهات في هذا الخصوص: عادت إلى الأمم المتحدة وسلمت بدور ملحوظ وبما بدا وكأنه قبول بشيء من التدويل، تركت مساحة ملحوظة «لمجلس الحكم» كي يختار رئيسي البلاد والحكومة الجديدين (طبعا تحت المظلة الأميركية)، وابدت مرونة وتجاوبا ملفتين بخصوص نص القرار المتداول في مجلس الأمن، عن مرحلة ما بعد نقل السلطة إلى حكومة علاّوي.

البعض رأى في هذا الجديد مؤشرا إلى حصول نقلة في سياسة وخطط إدارة بوش. الخبير الأميركي المعروف انطوني كورد سمن يقول إنه «يبدو أن المحافظين الجدد قد تخلوا عن حلم الشرق الأوسط الكبير ومبادرتهم بخصوصه». يعني تخلوا عن سياسة إعادة صوغ المنطقة! ربما لاكتشافهم، بعد تجربة العراق، أنه ليس بمقدورهم تخفيف ذلك، لأنه لا طاقة لواشنطن على تحمل كلفته. مجلة «نيوزويك» ترى أنه ربما «الصواب قد عاد إلى السياسة الخارجية الأميركية».

هل فعلا هناك انكفاء استراتيجي في هذا الخصوص أم أن الأمر لا يعدو كونه عملية تكويع تكتيكي، تضافرت مجموعة عوامل وفرضته على إدارة بوش؟

هل هو استدراك ورجوع عن الهوس والتفرد وعقلية حروب الاستباق، أم انه تراجع مؤقت لتحسين الصورة وتقليل الخسائر بغرض كسب انتخابات الرئاسة والتجديد لبوش أولا ثم العودة بعدها إلى الأصل؟

الإدارة تكبدت خسائر جمة في الأشهر الأخيرة. كلفة الاحتلال البشرية ارتفعت. الحال الأمنية في العراق تزداد سوءا. ما يسمى بالتحالف انفرطت بعض حلقاته وكان ابرزها الانسحاب الاسباني. ثم جاءت عقدة الفلوجة لتكشف المزيد من التخبط والارتباك: جناح الصقور وابواقه الاعلامية دفعت باتجاه الحسم العسكرية مهما كلف الأمر. جناح البيت الأبيض، الذي يتعامل مع الملف العراقي من منظور الانتخابات وحساباتها، عمل على ترجيح الخيار الآخر الذي قضى بالاستعانة بأحد ضباط الجيش العراقي كمخرج رأى فيه حلا أسلم، في ضوء الظروف الراهنة، الأمر الذي اثار حفيظة المتشددين الذين رأوا فيه تراجعا خطيرا وخطأ قاتلا.

في الوقت ذاته «انفجر» تمرد أحمد الجلبي ودارت الحرب المفتوحة بينه وبين وكالة الاستخبارات المركزية، وبالذات مديرها جورج تينيت. جماعة البنتاغون ومعهم نائب الرئيس تشيني من وراء الستار، وقفوا ضمنا إلى جانب الجلبي.

وقيل إن الخلاف دار حول الاستخبارات العراقية التي تجرى عملية إعادة تركيبها، وبالذات «عن من يسيطر عليها وما إذا كانت ستستخدم لتخريب الوضع الايراني أم لا» حسب ما ذكر المعلق المعروف في «واشنطن بوست» جيم هوغلند.

كل ذلك حصل وبدأ يتراكم على خلفية افتضاح كذب الإدارة بشأن اسلحة الدمار وذرائع الحرب التي كشفتها عدة مؤلفات وكتب صدرت عن شهود من أهل البيت، كان ابرزها كتاب وزير المالية المستقيل اونيل، ثم كتاب المسئول السابق في مجلس الأمن القومي ريتشارد كلارك، ناهيك عن كتاب بوب وودوورد والخبايا التي كشفها السفير ويلسون وما ادى إليه ذلك من تسريب، يوازي الفضيحة - التي قد تطيح برؤوس من الإدارة - بخصوص زوجته وفضح وظيفتها باعتبارها عميلا سريا في ةء.

وكان لافتضاح الحقائق بهذه الصورة اثره في تآكل صدقية الإدارة، وتحديدا الرئيس. وزاد الطين بلة انكشاف فضيحة أبوغريب، التي اتت على الباقي من هذه الصدقية، إذا كان قد بقي منها شيء. وهبطت شعبية بوش إلى حدود 42 في المئة، بحسب آخر استطلاع، الأمر الذي هز اركان حملته الانتخابية. ذلك أن الرئيس الذي ينحدر رصيده إلى هذه الحدود يصبح في دائرة الخطر، حسبما تشير إليه السوابق كما يقول خبراء الانتخابات.

في ضوء هذا المشهد وما رافقه من تحقيقات وجلسات استجواب امام لجان الكونغرس، لبعض كبار المسئولين في الإدارة، سادت صورة سوداوية حملت فريقا من صناع الرأي ومسئولين سابقين عسكريين ومدنيين على ناقوس الخطر والدعوة إلى طرح فكرة الانسحاب من العراق (الجنرال السابق وليام اودم)، أو لتحديد موعد لا يتعدى العام المقبل لهذا الانسحاب (نائب مستشار الرئيس كلينتون جيمس ستاينبدغ والخبير مايكل أوهانلون من مؤسسة بروكنغز للابحاث والدراسات) حتى أن بعض اعضاء مجلس الشيوخ ومن الجمهوريين مثل السناتور لنكولن شافي، تحدث عن «هزيمة استراتيجية محتملة» في العراق.

خلق هذا المناخ حالا داخلية ضاغطة على البيت الأبيض، تزامنت مع ضغط اقتراب موعد 30 يونيو/ حزيران، الأمر الذي حمل الإدارة الاميركية على العمل على خطين متوازيين:

1- تسريع عملية تركيب تشكيلة الحكومية العراقية المزمع تسليمها «السلطة» في ذلك التاريخ.

وهنا حرصت واشنطن على اخراج العملية بصورة تعطي لهذه التشكيلة قدرا من الصدقية لدى الشعب العراقي، وذلك بالابتعاد عن الاضواء خلال ولادة الحكومة واختيار الرئيس العراقي، بحيث ساد الانطباع بأن مجلس الحكم هو الذي اختار وهو الذي أطاح بمن أطاح. حتى أن بريمر نأى بنفسه ولم يأخذ الصورة التذكارية مع الحكومة الجديدة، لكن ذلك لا يحجب الحقيقة المعروفة.

2- تسريع العمل على استصدار قرار جديد من مجلس الأمن يمنح التركيبة الجديدة غطاء الشرعية، مع ابداء مرونة غير متوقعة في صوغ النص والترويج إلى أنها قامت بتنازلات كبيرة بخصوص السيادة العراقية عندما ارتضت تضمين القرار نصا بمنح الحكومة المؤقتة الحالية، كما الحكومة الانتقالية المقبلة المنبثقة عن مجلس نيابي منتخب في يناير/ كانون الثاني 2005م، حق طلب رحيل قوات الاحتلال، لكن اعطاء هذا الحق القرار محكوم بأن يبقى حبرا على ورق.

الرئيس بوش أكد أن القوات باقية بطلب من الحكومة. وهو لا يقول كلامه جزافا. يعرف أن اية حكومة تقوم في ظل الاحتلال لا تقوى على الخروج عن حبل الطاعة. والحكومة ذاتها اكدت الشيء نفسه. وقد تكون معذورة في الظرف الراهن، لأنه لا قدرة لها على ضبط الأمور من دون مساعدة قوات الاحتلال، لكن مشكلة هذه العلاقة لابد أن تنشأ في وقت لاحق عندما ترتفع وتيرة المطالبة في الشارع العراقي برحيل الاحتلال وتكون الحكومة عاجزة عن اتخاذ قرار في هذا الخصوص.

على أية حال، كان من الممكن التخفيف من درجة الارتياب في نوايا الإدارة وحقيقة شبه الانقلاب في تعاملها مع الملف العراقي - وهو ارتياب يمليه تركيبها الايديولوجي وطرحها السياسي، ناهيك عن سوابقها وخصوصا في العراق - لولا استقالة (أو اقالة...؟) مدير وكالة الاستخبارات المركزية جورج ثنيث، قبل ايام. فهذا التطور جاء ليس كتعبير عن وصول الصراع داخل الإدارة إلى ذروته وخروجه إلى العلن فقط، بل وقبل كل شيء جاء ليؤشر إلى رجحان كفة الصقور وخصوصا رامسفيلد وشلته في البنتاغون ايضا، والتي كان يفترض أن يطاح بها بعد «أبوغريب»، نظرا إلى مسئوليتها المباشرة بل ضلوعها ولو بالسكوت، فيه. وهو ترجيح يؤشر بدوره إلى ان دوائر الحرب والتعويل على القوة في الإدارة مازالت نافذة، وأن ما يظهر على السطح الآن من مهادنة وتواضع في الخطاب والموقف، ليس سوى حال عابرة تنتهي مع استحقاق الرئاسة اذا كان للرئيس أن يختار قطوعه بسلام. فذهاب تينيت سقوط لرموز التحفظ على الحرب. ولا سقوط لمنطق الحرب الا بهزيمة بوش في الانتخابات، بغض النظر عن من هو البديل. فعلى الأقل لن يكون أسوأ واخطر

العدد 642 - الثلثاء 08 يونيو 2004م الموافق 19 ربيع الثاني 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً