العدد 642 - الثلثاء 08 يونيو 2004م الموافق 19 ربيع الثاني 1425هـ

أمنيات على طريق دولة القانون

من التجنيس إلى معتقلي العريضة

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

مازلت أتذكّره، شيخا كبيرا مهيبا يتحدّر من فلسطين المغتصبة، بصوته المتهدّج، يعلّمنا الانجليزية في مدرسة النعيم الثانوية، في منتصف السبعينات. في بعض الدروس يغلبه أساه وتسيطر عليه الكآبة فيأخذ في الحديث عن وطنه السليب ومأساة شعبه. وكنّا ننصت إليه ونتألم. ومازلنا ننصت حتى اليوم إلى الأخبار ونتألم عندما يعرض التلفزيون صور الفظائع التي يرتكبها الصهاينة في أهلنا في فلسطين.

دارت الأيام، وانقطعنا عن العالم حينا طويلا من الدهر. وفي الوقت الذي كان يجري الإعداد لصدور «الوسط»، ألتقيت شخصا يشبه ذلك الاستاذ. بعد أيام سألته: هل تعرف استاذ اللغة الانجليزية في مدرسة النعيم؟ فأجابني: أنا ابنه. كانت الملامح نفسها، حتى التقاطيع. وجرت أحاديث ودية كثيرة بيننا، وفي أحدها سألني عن كل هذا الصراع السياسي الذي تشهده البحرين الذي ربما اعتبره نوعا من المناكفات، فأجبته: الحل يا صاحبي في ثلاث كلمات: «العدل وتكافؤ الفرص».

واليوم أردد الإجابة مرة أخرى: الحل هو في تطبيق العدل وتكافؤ الفرص وسيادة واحترام القانون، وفي مقدمة ذلك قضية التجنيس المثيرة للجدل. وليس هناك من يمانع في تجنيس مثل هذا الإنسان الفاضل والمعذب، ولكن كل الجدل هو ما وراء عملية التجنيس وما ستتركه على البلد من آثار كارثية. فالقضية ليست «إدماجا» بمقدار ما هي نذر بانت في الأفق من الآن، ما يثير المخاوف مما سيحفل به المستقبل حين يضيق هذا البلد بسكانه وقاطنيه.

ومن مآسي الدهر أننا اليوم في مطلع القرن الحادي والعشرين نطالب في كتاباتنا بمثل هذه الأمور البديهية التي أصحبت واقعا تعيشه شعوب الأرض المتحضرة وتجني ثماره رغدا في العيش واطمئنانا في الحياة وتأمينا لمستقبل الأجيال القادمة. لا تجد لديهم عنفا سياسيا إلا فيما ندر، لأنه ببساطة لم يعد هناك عنفٌ وعسفٌ من قبل السلطات. اليوم نكرر مقولات تناقلتها أقلام الغربيين قبل ثلاثةِ قرون، لنخرج من عنق الزجاجة، طلبا للإصلاح وتحسين الحياة في هذا البلد لنقول باطمئنان: إننا أبناء القرن الجديد ولسنا ممن يعيش القرون الوسطى.

نتكلم عن دولة المؤسسات، ولكن أية مؤسسات؟ عندما فتحنا المجال للعمل العلني الحر، وعاد المنفيون وخرج سكان المقابر والسجون، وقامت الجمعيات السياسية لتلعب دورها في الحراك الاجتماعي السلمي، اخترعنا أغرب نظرية سياسية ساخرة في الأدب الحديث لا أدري ماذا ستقول عنها أجيال المستقبل: «الانشغال بالسياسة وليس الاشتغال»، وكأن هذا الشعب بقواه السياسية الفاعلة مجموعات من الفارغين المتبطلين!

تكلّمنا عن النيابة العامة وسيادة القانون ونزاهة القضاء، وهي كلها أمانٍ ندعو إليها ونأمل تطبيقها لكيلا يتضرر آخرون من أبناء الوطن مستقبلا، وكان أول اختبارٍ حاسمٍ يوم سقطت كل هذه الأماني الجميلة باعتقال 14 عضوا من أعضاء الجمعيات، كان كلّ جرمهم جمع توقيعات المواطنين على عريضة شعبية كانت سترفع للمسئولين في الدولة! ودخلوا المعتقل ثلاثة أسابيع باسم القانون، وبدعوى انهم خالفوا القانون. «جريمة» لو وقعت في دولةٍ غربية يحكمها القانون لما استدعت احتجازهم لمدة نصف ساعة في مركز للشرطة، ولكان من حق «المتهمين» رفع دعوى ضد الجهة التي احتجزتهم ثلاثة أسابيع.

الجمهور الذي ينتظر العدل وتطبيق القانون لن يفهم طرد عامل من شركة اختلس منها بضاعة بدينار واحد، وأودع السجن لمدة ثلاثة أشهر، بينما يترك من تلاعب في الملايين من أموال الناس حرا طليقا معزّزا مكرما.

الجمهور لا يفهم «المرافعات» القانونية التي تحمي الكبير إذا مدّ يده إلى المال العام، ولا تتسامح مع الفقير الذي سرق علبة فاصوليا لعياله. ويجب ألا يفهم أن هذا الكلام يستبطن الدعوة إلى مد اليد إلى مال الغير بدعوى الجوع، ولكنها غريزة البقاء التي لا تقف بوجهها النصائح والتوجيهات الأخلاقية، فـ «الجوع كافرٌ».

في الدولة التي يحكمها القانون لا تكون هناك طبقة فوق المحاسبة، وأخرى تحت المحاسبة. وما هانت دولةٌ إلا بعد ان يستهان بالضعيف فيها لفقره ويكرم الغني لغناه.

ما كنا محتاجين لأفكار الغربيين والشرقيين، وكان يكفينا لو استشهدنا بقول الرسول الكريم (ص) ما معناه، إن ما اهلك الامم من قبلكم انهم كانوا إذا سرق منهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق منهم القوي رفعوه عنه. وحينها اطلق كلمته المدوية: «والله لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لأقمت عليها الحد»... ذكرى وموعظة بليغة، ولكن أين المستمعون؟

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 642 - الثلثاء 08 يونيو 2004م الموافق 19 ربيع الثاني 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً