إذا كان لابد من تسجيل الحسنات السياسية التي خطتها البحرين ملكا ومعارضة، فإنها اختارت الانضمام إلى مجموعة دول عربية تتيح لشعوبها قدرا من الحريات العامة في مجال التعبير السلمي والتنظيم العلني المتوافق عليه شفويا في إطار النوايا الحسنة، والمختلف عليه تنفيذيا بحسب القوانين القديمة التي تتحكم في مفاصله «وقت الشد والجذب» كما جربناه في أكثر من حادث وواقعة.
يقول الكاتب: علي خليفة الكواري في صحيفة «الراية» القطرية في 18 فبراير/ شباط الماضي تحت عنوان «عدت حزينا من أقصر رحلة إلى البحرين»: «هذا القدر من الحريات العامة وان كان لا يرقى بالدول العربية التي اختارته إلى مستوى الانتقال إلى الممارسة الديمقراطية، إلا أنه ربما يمهّد الطريق إلى ذلك الانتقال، ويسمح للناس أن تعبّر سلميا عن رأيها في القرارات ورؤيتها للخيارات العامة من دون رعب من السلطة وخشية عنفها خارج حكم القانون. ودول هذا المعسكر العربي الناشئ التي تتيح للقوى السياسية والتيارات الفكرية الفاعلة فيها التعبير عن اهتماماتها وتنظيم نفسها في أحزاب أو جمعيات سياسية أهلية، وتسمح لها إجراء الحوار فيما بينها ومن ثم الحوار بينها وبين حكوماتها، هي في تقدير المراقبين للإصلاح السياسي تضم اليوم: لبنان والكويت والمغرب والأردن وربما الجزائر والسودان وانضمت إليها البحرين منذ أواخر العام 2000م». (انتهى الاقتباس).
يبدو من خلال ما تقدم لما قاله الكواري الذي تحتضن البحرين قبر والدته رحمها الله، أنها شهادة موضوعية كموضوعيته، خالية من النفاق والتملق، والأهم انها لا تحمل لكنة عدائية في الطرح على رغم ظروف «عودته حزينا من البحرين» بطريقة لا تليق بسمعة مملكتنا والبقية تعرفونها.
وودت من هذا «الاقتباس» أن يكون مدخلا لما تطالعنا هذه الأيام من أخبار غير سارة لا تمهد للممارسة الديمقراطية، بل نشم منها رائحة كريهة وخطيرة، وخصوصا تلك التي تخرج من قبة البرلمان، وبعضها من خارجه وتجد للأسف من يدافع عنها بحمية غير مفهومة... هذه الأخبار عن قضايا تثير الأسى وتعكس تخبطا آن الأوان لتوقفه إذا ما أردنا درء أخطار حقيقية تهدد العملية الديمقراطية الناشئة عبر تمرير ممارسات غير صحية ضحيتها هذه المرة نواب وطنيون يحاولون من خلال المتاح الدفاع عن مصالح بلدهم وناخبيهم.
هذه الأخبار المحبطة مثل: «إحالة النائب الأول لرئيس مجلس النواب عبدالهادي مرهون وعضيديه عبدالنبي سلمان ويوسف زينل للتحقيق معهم أمام لجنة الشئون التشريعية والقانونية، على خلفية اعتراضهم على ما ورد في تقرير لجنة الخدمات البرلمانية التي برأت وزير المالية عبدالله حسن سيف، وجدّدت الثقة به كوزير، وكذلك قضية التجنيس والمجنسين غير القانونيين وما أثير بشأنها من لغطٍ وجدل وانقسامات اعتبرها البعض «شرارة طائفية» داخل البرلمان، فيما استغلها من خارجه أحد المجنسين المصريين بتقديم بلاغ إلى النيابة العامة اتهم فيه أربعة نواب بينهم مرهون أيضا بـ «تحقير البحرينيين المجنسين واهانتهم» وكذلك رفض لجنة الخدمات في وقت سابق مشروع قانون تنظيم الأحزاب السياسية، في حين قرّر المجلس قرارا غير ملزم للحكومة «يجيز تقصير الثوب وتطويل اللحى في الدوائر الحكومية» ويقصد بذلك في قوة الدفاع والداخلية، بينما رفض اقتراح برغبة في نصف دقيقة يمنع التمييز في التوظيف الحكومي!!
إنها أخبار تستدعي التأمل عميقا في «القادم المشؤوم» الذي لا يمهد للممارسة الديمقراطية، ولا يكون مقدمة لها على رغم أنه غير مرئي إلا أنه يستوجب من الخيّرين والغيورين على الإصلاح والعصرنة والبلاد والعباد بذل الجهد والحماية لتفويت الفرصة على مراكز قوى معينة في المجتمع تحاول التخفي بعد أن كاد أمرها ينكشف لمشاركتها في الفساد الإداري والمالي، وحجم كراهيتها للديمقراطية المنشودة وتطورها الطبيعي.
هذه القوى بلا شك أصبحت تضيق ذرعا وهلعا من مناضلين يسعون إلى بناء الحقيقة داخل البرلمان وخارجه، تارة تخشى رفع سقف الحريات، وتارة أخرى تقلب الحقائق فتسمي «التصويب بالتقويض» والعكس بالعكس، حتى وصلت بها المواصيل لتكميم الأفواه في الوسط البرلماني بإرهاب نواب واسكاتهم، وإلا ماذا يعني تكميم صوت نائب يملك حصانة برلمانية عندما يطرح رأيا مختلفا للجنة برلمانية ويتعرض للتحقيق أو التوبيخ؟
والأدهى من ذلك، قد نتفهم تبرئة وزير المالية بغالبية ثلثي المجلس، وهو فعل ديمقراطي حسمته نسبة الأصوات، وهو ما كان متوقعا بحكم تركيبة أعضائه وموازين القوى والمصالح بين الأعضاء في المجلس، لكن الذي يصعب فهمه، كيف يتطاول متجنس على نواب منتخبين من قبل مواطنيهم ويرهبهم بالنيابة العامة، وقد يجرجرهم إليها كمتهمين بجريمة «تحقير بحرينيين متجنسين وإهانتهم» في حين أن معركة بعض النواب مع الذين جنسوا من دون وجه حق وليس مع المجنسين قانونيا، الذين لم يتطاول عليهم أحد؟!
إذا كان نواب بحصانتهم البرلمانية يعترضون على تقرير لجنة برلمانية يتعرضون للتحقيق، وإذا عبروا سلميا عن وجهة نظرهم في مسألة خلافية ما مثل قضية التجنيس غير القانوني الذي هو محل استياء شعبي عام لما به من الفضائح ما تجعل «الغراب يطير من على الرأس» تعطي متجنسا مجالا لرفع حصانتهم البرلمانية تمهيدا لمحاكمتهم، فماذا تبقى لعامة الناس من حرية تعبير عن آرائهم؟!
بصراحة، كان على النائب الأول لرئيس مجلس النواب عبدالهادي مرهون، والناشط عبدالنبي سلمان، ألا يكتفيا برفع ورقة مكتوب عليها: «لا للتجنيس»، وهما يعلمان حجم الحركة تحت قبة البرلمان، بل تسير مسيرة سلمية هما وزملائهما الذين تحدثوا بحماسة وطنية يشهد لها، تنطلق من أية زاوية من زوايا البحرين ليس احتجاجا على ملف التجنيس غير القانوني فحسب، بل على تقرير لجنة الخدمات البرلمانية، وعلى ثلثي الأعضاء الذين صوّتوا ضد رغبات ناخبيهم وضد التعديلات الدستورية التي قلّصت من صلاحيات المجلس المنتخب التشريعية والرقابية، مطالبين بسلطة تشريعية كاملة الصلاحيات، وظنّي أن دعوة مثل هذه ستلقى آذانا صاغية، لأن جُلّ الناس في مملكتنا الدستورية اختارت الديمقراطية وتطمح إلى الانتقال إلى ممارستها.
هذا، أو سيطلق عليكم المثل الشعبي المعروف: «اسمه في الحصاد ومنجله مكسور!!»
العدد 641 - الإثنين 07 يونيو 2004م الموافق 18 ربيع الثاني 1425هـ