استقالة مدير المخابرات الأميركية (سي. آي. إيه) جورج تينيت من منصبه ليست حادثا عاديا. فالاستقالة هي أقرب إلى الإقالة وتعكس في مدلولها السياسي أزمة إدارية فشل الرئيس الأميركي في تغطيتها بعد انكشاف مسألة «أسلحة الدمار الشامل» وانفضاح موضوع «أسرى سجن أبوغريب». فالاستقالة جاءت بعد ضغوط مارسها وزير الدفاع دونالد رامسفيلد منذ حصول هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001. المشكلة قديمة وبدأت حين حاول كل طرف إلقاء مسئولية التقصير على الآخر. وزير الدفاع اتهم مدير المخابرات بأنه الطرف الذي يتحمل مسئولية ما حصل. وإدارة المخابرات اتهمت «البنتاغون» بإهمال معلومات وتقارير زودتها بها أجهزة «سي. آي. إيه» قبل حصول الهجمات.
المشكلة إذا ليست حديثة العهد فهي تعود إلى الأيام الأولى للهجمات واختلاف وجهات النظر بين دائرة الدفاع ودائرة المخابرات في إدارة الأزمة بعد حصول الهجمات. وأدى الاختلاف إلى تجدد المناوشات بين الدائرتين ونمو نوع من عدم الثقة بينهما. فالدفاع سخرت من تقارير المخابرات ورفضت اعتمادها كمعلومات ثابتة لسياستها العسكرية، واتكلت على جهاز الأمن القومي التابع لـ «البنتاغون» في رسم السياسة الخارجية. والأمر الأخير أدى بدوره إلى تأزيم العلاقة مع وزير الخارجية كولن باول. فوزير الخارجية وجد في خطوات دونالد رامسفيلد محاولة لتجاوز صلاحياته، متهما إياه بمحاولة عسكرة السياسة بينما المطلوب خضوع النهج العسكري للدبلوماسية.
وبسبب هذا التنازع على رسم الاستراتيجية الأميركية والطرف الذي يشرف على تخطيطها وتنفيذها ارتسمت خطوط مراكز القوى داخل البيت الأبيض، وتشكلت استقطابات إدارية تمثلت في ثلاثة تكتلات تقوم على ثنائيات: الأولى تألفت من الرئيس جورج بوش ومستشارته للأمن القومي كوندليزا رايس، والثانية تألفت من نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع، بينما تشكلت الثنائية الثالثة من وزير الخارجية مدعوما بمدير المخابرات المستقيل.
استقالة تينيت تعتبر ضربة غير مباشرة لباول، وتعزز إلى حد معين صلاحيات رامسفيلد، وتثبت مواقعه كطرف مسئول مباشرة على الإشراف على سياسة الأمن القومي.
الاستقالة هي أقرب إلى الاقالة وهي جاءت بعد ضغوط مورست على البيت الأبيض طوال الفترة الماضية. وما قاله الرئيس عن أسفه وانه لم يطلب من تينيت الاستقالة غير صحيح. كذلك يمكن وضع إشادات رامسفيلد بالمدير المستقيل في دائرة ادعاء الاعجاب للمناورة على الرأي العام قبل أشهر قليلة من الانتخابات الأميركية. الاستقالة كان يريدها رامسفيلد منذ فترة طويلة. وبوش حاول منعها طوال تلك الفترة لمنع انكشاف الخلافات الداخلية في إدارة البيت الأبيض. إلا أن المشكلة كانت تتجدد بين الطرفين حين حصول فضيحة أمنية أو انكشاف اخطاء في المعلومات والتقارير. فكان لابد أن يدفع أحد الطرفين الثمن، فاختار بوش مدير المخابرات بدلا من وزير الدفاع.
تينيت هو «كبش فداء» سياسة دولية راكمت خلالها الولايات المتحدة مئات الأخطاء الخارجية والداخلية في فترة زمنية قياسية. فواشنطن الآن تعيش ما يشبه «العزلة» الدولية وتحتاج إلى فترة نقاهة لمعالجة علاقاتها المتدهورة مع معظم أوروبا وروسيا والصين، وتحسين سمعتها المشوشة وتحديدا ما يتعلق بسياستها المتسلطة وخصوصا ضد العالم العربي (الإسلامي).
إدارة البيت الأبيض كما تبدو الآن تريد إعادة النظر في بعض تفصيلات سياستها الخارجية من دون تعديل جوهري على استراتيجيتها الدولية الكبرى. فهي تحاول ان تظهر للرأي العام الدولي انها بدأت تتغير من خلال طرح سياسات مرنة في العراق، وإبداء استعدادها للتراجع عن تكتيكات هجوم أعلنت عنها فور حصول هجمات سبتمبر. وكل هذا تريده أن يتعدل خلال أقل من شهر قبل انعقاد قمة الدول الثماني في سي آيلاند وقمة الحلف الاطلسي في إسطنبول وقبل موعد انسحابها (إعادة الانتشار) في العراق.
انها لعبة شطرنج وكان لابد من التضحية ببيدق لحماية الرئيس من الانهيار العام قبل أشهر من الانتخابات الرئاسية. فالفضائح تضخمت والملفات وصلت إلى الكونغرس والتحقيقات انتشر معظمها في الصحف، والكل يشير إلى دور خفي لرامسفيلد في رسم سياسة الحروب القذرة. فكانت المفاجأة استقالة تينيت من إدارة المخابرات الأميركية.
لعبة الشطرنج إذا لم تنته. فالرئيس ضحّى بالطرف الاضعف لتقوية الطرف الأقوى وهو مصدر الخطر على السياسة الأميركية الدولية.
استقالة تينيت هي أقرب إلى الإقالة وهي محاولة كسب وقت لإعادة تدوير الاستراتيجية الأميركية في الفترة المقبلة في حال جُدّد للرئيس الحالي. فالرئيس احتفظ بالقلعة (البنتاغون) وترك المخابرات تعالج وحدها شبكة خيوطها. وفي هذا المعنى واشنطن لم تتغير... والآتي أعظم
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 638 - الجمعة 04 يونيو 2004م الموافق 15 ربيع الثاني 1425هـ