هناك الكثير من القراءات العربية المعاصرة تشير دائما إلى وجود أزمة في الفكر العربي (الإسلامي). وتنسب القراءات تلك الأزمة إلى الماضي لا الحاضر، محاولة القفز إلى الوراء للقول إن الأزمة موصولة بالقمع التاريخي الذي تعرضت له الأمة من قبل السلطات. فالقراءات تربط أزمة الراهن بالماضي للإشارة إلى وجود مشكلة في بنية التفكير العربي (الإسلامي)، وان هذه المشكلة تأسست بسبب لجوء السلطات إلى قمع الأسئلة. وحين تقمع الأسئلة تتعطل إمكانات تقديم أجوبة، كما تقول ذرائع النخبة العربية.
هذه المقولة بحاجة إلى تفكيك حتى لا تُسقط القراءات المعاصرة أزمتها الراهنة على الماضي لترفع عنها مسئولية تعثر تطور الفكر العربي (الإسلامي). ففي الماضي لم تكن الأسئلة مقموعة كذلك كانت الأجوبة مفتوحة على كل الاحتمالات وصولا إلى الإلحاد. فالخط الإلحادي في الفكر العربي - الإسلامي موجود منذ القدم وليس اختراعا حداثيا.
هناك حلقات في سلسلة الملحدين العرب والمسلمين وهي لم تنقطع منذ البداية إلى حاضرنا. ومنذ البداية كانت الأزمة في حلقات السلسلة نفسها ولم تأتِ من الخارج. فالسلسلة كانت ضعيفة قياسا بغيرها من حلقات نجحت في تفكيك نص الإلحاد وبعثرته من الداخل. والسلطات لم تتدخل في هذا السجال وأحيانا كانت تتدخل لقمع التيار المضاد. وهناك سلطات سياسية كانت تتقرب من تيار الملحدين لأنها تجد عندهم ما يبرر سلوكها للرد على المحرمات التي كان يضعها العلماء والأئمة والفقهاء والقضاة. وفي حال مراجعة التاريخ كوقائع يمكن تقديم عشرات الأمثلة التي كان فيها الملاحدة ندماء السلاطين في وقت كان التيار المضاد (النقدي) ملاحَقا ومطارَدا أو مطرودا من دائرة سلطة القرار.
المسألة معقدة وليس صحيحا ذاك التقسيم الثنائي الثابت (الجامد في مدلولاته العقلانية والتاريخية) الذي لجأ إليه بعض الباحثين للقول إن السلطة كانت متحالفة دائما مع الدين، وان المعارضة كانت مخالفة للسلطة انطلاقا من العقل (العقلانية). هذا الكلام غير صحيح وتعوزه الدقة التاريخية بل يمكن قول عكس الكلام المذكور والاستنتاج ضده بمقولات كثيرة معززة بالشواهد والوقائع.
لابد من إعادة قراءة تلك المقولات المعاصرة وتفكيكها حتى تنكشف الأسس الواقعية لأمة اعتزت منذ حداثة تاريخها بالإسلام. فالإسلام شكل منذ البدايات الأولى قوة انبعاث لهوية أسهمت في تأسيس حضارة. فالحضارة في هذا المعنى التاريخي كانت الوعاء الذي وحّد الولاءات في وقت كانت السلطات تحارب الإسلام. وبسبب التأسيس الحضاري ارتبط الإسلام بالهوية لا بالدولة. فالدول كانت تصعد وتهبط وتلعب دور القائد أو التابع، بينما الإسلام استمر كدين حضاري. وهذا ما أعطى للحضارة الإسلامية هويتها وأعطى للدين قوة حضارية مقاومة وممانعة. وما يشهده العالم اليوم من صراعات وخلافات ونقاشات وحوارات سلبية وإيجابية بشأن الإسلام وكتابه هو الشاهد الراهن على وقائع ماضية.
الأسئلة لم تكن مقموعة كذلك الأجوبة في التاريخ الإسلامي، والأزمة الراهنة هي أساسا نتاج الحاضر لا الماضي. فالمشكلة اليوم لها صلة بالسلطات القائمة في حاضرنا لا في الماضي وتاريخه الذي أنتج حلقات حضارية في سلسلة لم تنقطع إلا في مطلع القرن العشرين. وحين انقطعت السلسلة انقطع النقاش ودخل العالم العربي (الإسلامي) في غيبوبة فكرية عطلت عليه إمكانات التواصل ودخول العصر كطرف مستقل يتمتع بموقع حضاري أو كشريك يصنع التحولات ولا يكتفي بلعب دور المتفرج أو المتلقي لما يصنعه غيره.
تهميش الإسلام حضاريا عطّل إمكانات التقدم وأفسح المجال لهذا الطيف من المتطرفين الذي ينقصه العلم وتنقصه الدراية لقول قوله وجرِّ الأمة من أطرافها نحو مواجهة اختارت القوى الكبرى مكانها وزمانها. وما نشهده اليوم من تفكك وانهيار وتسلط هو نتاج إسقاط دور الإسلام الحضاري وترك الساحة مفتوحة أمام طيش من العسكريين أو الحزبيين أو الايديولوجيين للانقلاب على الشرعية التاريخية ومصادرتها لحسابات كثيرة منها تمكين الأجنبي وإضعاف القوى الحية القادرة على التجديد أو الحماية.
الأزمة بدأت حين قررت النخبة العربية إسقاط الإسلام من حسابات المستقبل. فإسقاط الإسلام وهو المكون (المولِّد) الرئيسي للحضارة العربية أسهم في تراجع دور الفكر العربي وتعطل إمكانات تطوره. فعزل الإسلام عن سياق تفاعل الحضارات كان له الدور الأساس في تطوير أزمة العقل وتأزيم الفكر العربي (الإسلامي) وإغلاق طرق التقدم أمامه. وبسبب سياسة العزل وصل الفكر العربي المعاصر إلى حائط مسدود، فهو من جهة يعاني من معضلة بنيوية نتيجة التحاقه بالفكر الغربي من دون سجال أو نقد فتعطلت أمامه إمكانات الرقي، وهو من جهة يعاني من غربة في مجتمع تقطعت صلاته به فلا هو يفهم على المجتمع ولا المجتمع يفهم عليه. فعزل الإسلام أسهم في تكوين «انعزالية» ايديولوجية لقيم الحداثة تمثلت في غربتين: غربة المثقف عن الإسلام وغربة الإسلام عن المثقف.
هذه الغربة المزدوجة تفسر إلى حدٍّ كبير أزمة الفكر العربي المعاصر. فالأزمة حديثة العهد ولا صلة لها بالماضي وإنما بحاضر نخبة أسست مستقبلها على عقل دوني يرى في الأجنبي قدوة فانتهى أمرها إلى نوع من الالتحاق به بعد أن فشلت فكرة اللحاق بالغرب. فغربة المثقف العربي المعاصر هي نتاج انعزاله عن ماضيه وتاريخه والتحاقه بماضي الغرب وتاريخه. والأزمة تولدت بسبب رفض النخبة التصالح مع ماضيها وتاريخها... ورفض المصالحة مع الذات تعطل دائما إمكانات المصالحة مع الآخر
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 637 - الخميس 03 يونيو 2004م الموافق 14 ربيع الثاني 1425هـ