العدد 2366 - الخميس 26 فبراير 2009م الموافق 01 ربيع الاول 1430هـ

دويلات طوائف وظهور حركة المرابطين في المغرب

المثقفون والسلطة في الأندلس (1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

لعبت الأندلس (أسبانيا) دورا مفصليا في التاريخ الإسلامي - العربي. وشكل موقع الأندلس الجغرافي نقطة تجاذب عربية - أوروبية ولدت حركة استقطابات دولية - دينية أدت لاحقا إلى انهيار الممالك الإسلامية وقيام نهضة عمرانية - معرفية في أوروبا مقابل تراجع العالم الإسلامي.

العودة إلى تاريخ الأندلس في حاضرنا تعتبر ضرورة معرفية لأنها تحاول قراءة الماضي والاستفادة من دروسه وخلاصاته النظرية وربما التأسيس عليها حتى لا يعاد إنتاج تجربة الأندلس في ظروف مخالفة عموما ولكنها متشابهة في الصغائر والجزئيات.

أهمية الأندلس في التاريخ الإسلامي - العربي لا تقتصر على الجانب العمراني وإنما تمتد إلى الجانب المعرفي الذي استفادت منه أوروبا ونهلت من كنوزه بحثا عن المستقبل.

الجانب المعرفي (الفقهي - الفلسفي - العلمي) شكل زاوية مضيئة فتحت طريق الأنوار في أوروبا. وهذه الزاوية الأندلسية هي جزء من عمارة إسلامية - عربية بدأت في المشرق (بلاد الرافدين، بلاد الشام، ومصر) وانتقلت لاحقا إلى المغرب (المغاربة، الأندلس) وبعدها ارتحلت غربا وشمالا إلى أوروبا.

العودة إلى كشف تاريخ الأندلس مسألة ملحة لاعتبارات راهنة ولكونها أيضا تلقي الضوء على جانب مهم ومسكوت عنه يتصل بتلك العلاقة المضطربة بين المثقف والسلطة ودور السلطة في إنتاج المثقف واستخدامه أحيانا، ودور المثقف في إنتاج السلطة والدفاع عنها واستخدامها أحيانا أخرى. وبسبب تلك العلاقة المتوترة بين الثقافة والسلطان نشأت مدارس فكرية واجتهادات فقهية وحلقات فلسفية بدأت تباعا من ابن حزم الظاهري وصاعد الأندلسي وتواصلت حلقاتها من ابن باجه وأبن طفيل وابن رشد وصولا إلى ابن عربي.

كل هذه الحلقات وغيرها من اجتهادات تشكلت في ضوء التجاذب بين المثقف والسلطة وتأسست على مجموعة متغيرات اجتماعية - سياسية ساهمت في نمو القوة مرات وفي صنع الضعف مرات إلى أن تهالكت الممالك وتساقطت تباعا وصولا إلى تهاوي مملكة غرناطة (دولة بني الأحمر) في مطلع العام 1492 الميلادي... وهو العام الذي تصادف فيه اكتشاف أميركا وبدء صعود الغرب وانكفاء الشرق.

قصة علاقة المثقف بالسلطة في الأندلس تاريخية قبل أن تكون معرفية. وبسبب الوقائع لابد من تسجيل محطات تلك الأطوار من العلاقة حتى تشكل مادة خام يمكن الانتباه إلى تجربتها لاستخلاص الدروس الثرية والعبر الغنية. وهنا الحلقة الأولى.

كان صاعد الأندلسي (صاحب كتاب طبقات الأمم) في السنتين من عمره عندما انهارت الدولة الأموية وبدأت مرحلة «أمراء الطوائف» في العام 422 هجرية (1031م). لذلك لم يدرك دور تحالف العصبية المروانية - العامرية في تثبيت الحكم الإسلامي في الأندلس كما أدرك ابن حزم الظاهري الأمر سابقا واكتشف أهمية الدولة المركزية في صون الحدود والدفاع عنها.

لم يعمر صاعد كثيرا بعد وفاة ابن حزم، فتوفي بعده بست سنوات وهي فترة ليست كافية لوعي قوانين التاريخ. فعصر صاعد هو عصر أمراء الطوائف فقط بينما عايش ابن حزم المراحل الثلاث (الدولة الأموية - العامرية، الفتنة الأندلسية، وأمراء الطوائف) وأحيانا ساهم في صنع العديد من الحوادث.

كانت الأندلس عيشة وفاة ابن حزم في العام 456 هجرية (1064م) موزعة على عشرات الأسر والإمارات، وبدأ ميزان القوى يميل للفرنجة وأخذت ممالكهم تستقوي على أمراء الطوائف وتفرض عليهم الجزية وتصادر أملاكهم وأرزاقهم في وقت انصرفت جهود الأمراء على الاقتتال والتآمر ضد بعضهم وادعاء كل فريق أنه يمثل الشرعية ويطلق على دولته «إمارة المسلمين» وأحيانا كان يسمي صاحب الدولة نفسه بـ «أمير المؤمنين».

لم يلحظ صاعد الأندلسي خطورة الوضع بسبب صغر سنه، كما ذكرنا، بينما راقب ابن حزم هذه التطورات كثيرا ودفع مقابل مواقفه الفقهية واحتجاجه السياسي الثمن الباهظ فاعتقل وطرد وشرد وحرقت كتبه، ولم يتوقف عن السخرية من هؤلاء الأمراء ودولهم، معتبرا ظاهرة التفكك والتشتت وتعدد «مراكز الخلافة» فضيحة سياسية ودلالة من دلالات إدبار أمر المسلمين في تلك الديار. فكتب في سنة 448 هجرية (1056م) يهزأ من كثرة ادعاء أصحاب الدول بأنهم «أمراء المؤمنين»، فصاحب اشبيلية (المعتضد بن عباد) ادعى أنه يدعم إمارة هشام المؤيد بعد 22 سنة من موت المؤيد وصدقه الناس وبايعوا «الخليفة» المجهول الذي لا يظهر للناس، وادعى صاحب الجزيرة محمد بن القاسم الحسني أنه «أمير المؤمنين»، كذلك أدعى صاحب مالقة محمد بن ادريس، ومثله فعل صاحب سبته ادريس بن يحيى (تاريخ المراكشي، الجزء 3، ص 244).

استمر عهد أمراء الطوائف 70 سنة. وبين عام 422 هجرية (انهيار الدولة الأموية في قرطبة) وعام 492 هجرية (1099م) (سيطرة دولة المرابطين على الأندلس) ظهرت عشرات الدويلات برئاسة أسر استغلت تفكك الدولة المركزية وانشطارها فاستولت على مقاطعاتها وأعلنت استقلالها. فانتزعت الأسرة العامرية (حلفاء المروانيين) دانية والجزائر الشرقية بزعامة مجاهد العامري، واستولت الأسرة نفسها على بلنسية وشاطبة بزعامة مبارك ومظفر العامريين. واستولى خيران الفتى على المرية، ومنذر بن يحيى على سرقسطة، وابن جهور على قرطبة، وابن عباد على اشبيلية، وابن حمود على سبته، وابن الأفطس (بنو مسلمة) على غرب الأندلس، وابن هود الجذامي على لاردة، وابن حبوس الصنهاجي على غرناطة، وابن برزال الزناتي على قرمونة، وابن يفرن الزناتي على تاكرنا، وابن ذي النون على طليطلة، وابن رزين على شنتمرية.

تداخلت مناطق الإمارات ببعضها وضاقت بأصحابها فدخلوا في صراعات دموية وصلت إلى حد ارتكاب مجازر بلغت احيانا درجة الإبادة الجماعية. ولم تقتصر حروب الأمراء في حدود التنازع على المناطق وخراجها، بل تطورت مع الأيام بشن هجمات على المدن وتبادل السيطرة عليها لأسابيع أو أشهر ثم الانسحاب بعد تخريب العمران ومصادر الرزق ثم تأتي قوة مضادة فتنتزع من السابقة مواقعها وتكرر الأفعال نفسها.

شملت الصراعات كل حالات الاقتتال الموروث من العهود السابقة، وانعكست تلك الموروثات على التحالفات. فقبيلة صنهاجة البربرية كانت تميل تقليديا إلى تأييد الدولة الفاطمية في مصر بينما ناصرت قبيلة زناته البربرية الدولة الأموية المروانية قبل اضمحلالها في الأندلس. وبسبب اختلاف الولاءات السياسية التقليدية بين صنهاجه وزناته كان من الصعب اتفاقهما على موقف موحد في ظل تفكك الدولة المركزية وانهيارها إلى دويلات معزولة عن بعضها بعضا. فاشتد الصراع القبلي بين صنهاجة وزناته مرتكزا على توجهات عقائدية مختلفة فحصلت بين القبيلتين معارك تبادل فيها الطرفان هجمات أدت إلى دمار قوتهما. كذلك حصل الأمر بين أمراء الأسر العربية فتقاتل أصحاب الدول تحت شعارات متضاربة زادت من تصادمهم العسكري واستنزاف قواهم السياسية.

في ظل الصراع الداخلي المدمر كان لا بد من قوة خارجية تأخذ زمام المبادرة وتوحد الدويلات وتعيد إنتاج دولة مركزية تحد من نفوذ الفرنجة (التحالف الأوروبي) وتقدمهم باتجاه الممالك المسلمة في الأندلس.

آنذاك وقبل وفاة ابن حزم بدأ أمر «الملثمين» وقويت شوكتهم. ولم يتوقع أمراء الطوائف أن نهايتهم السريعة ستكون على يد تلك القوة المجهولة التي صعدت من الصحاري المغاربية.

قبل أن تتغلب قبائل لمتونة المرابطة على «أمراء الطوائف» حاولت قوتان محليتان السيطرة على الموقف الأندلسي وانتزاع إمارات أصحاب الدول وضمها إلى بعضها لمواجهة تصاعد قوة الفرنجة ضد المسلمين، وهما دولة ابن هود الجذامي ودولة بني عباد اللخمي.

دويلات محلية

ابتدأ أمر ابن هود في سنة 431 هجرية (1040م) عندما تغلب أول ملوكهم المستعين سليمان بن هود الجذامي على مدينة لاردة وتنازع مع صاحب سرقسطة عبدالله بن حكيم فتغلب عليه وضم مدينته إلى ملكه وسيطر على شرق الأندلس في سنة 436 هجرية. وبعد موته سنة 438 هجرية تنازع أولاده الحكم ونهض ابنه المقتدر بالله (أحمد بن سليمان بن هود) للقيادة في مواجهة شقيقه يوسف فاتصل أحمد بالفرنجة لمعاونته ضد شقيقه فتم الأمر واستقل بالإمارة في الثغر الأعلى من الأندلس بعد أن ضم طرطوشة إلى ملكه.

اتسعت دولة ابن هود وقويت شوكتها فخاف الفرنجة من طموحات أميرها فانقلبت التحالفات ودخل أحمد بن سليمان بن هود في صراعات عنيفة مع الفرنجة انتهت بسقوط مدينة بريشتر وحصول مجزرة بأهلها في سنة 456 هجرية. وهي السنة التي توفي فيها ابن حزم. وكشفت المذبحة عن بدايات التحول في الميزان العسكري بين الفرنجة والمسلمين. آنذاك أقدم النورمانديون على دخول المدينة وقتلوا 50 ألفا وحرقوا المساجد والمتاجر والمكاتب. وحصول المذبحة كان نتيجة تنافس الشقيقين على ولاية المدينة.

أعلن ابن هود الجهاد واسترد المدينة. وهو أمر رفع من شأنه بين المسلمين فقام بعدها بضم داينة إلى إمارته وأخرج منها صاحبها ابن مجاهد العامري في سنة 468هجرية (1075م) . وما كاد ابن هود يفرح بانتصاره حتى فتح الفرنجة جبهة عسكرية ضده اضطر في نهايتها إلى قبول شروطهم والموافقة على دفع الجزية لملوك الإفرنج.

استمرت ولاية المقتدر بالله (أحمد) 36 سنة وتوفي سنة 474 هجرية فتولى ابنه المؤتمن وكانت ولايته أربع سنوات وتوفي سنة 478 هجرية(1085م)، وتولى بعده المستعين بالله بن هود وبقي إلى حين ظهور دولة المرابطين.

على موازاة دولة ابن هود نهضت دولة ابن عباد وكانت الأقوى بين ممالك الأندلس. وتنتمي أسرة ابن عباد إلى رهط من لخم (من أهل حمص في الشام) تفرق في أقطار الأندلس بعد فتحها فنزل في غربها نعيم وعطاف إلى أن تولى إسماعيل بن عباد (من أولاد نعيم وعطاف) قضاء اشبيلية في عهد حجابة بن أبي عامر في قرطبة وبقي في مركزه إلى وفاته سنة 414 هجرية. وتولى ابنه أبو القاسم القضاء بعده ثم استقل بها ابنه بعد اندلاع الفتنة وانهيار الدولة الأموية. وسرعان ما اندلعت الحرب بين اشبيلية وصاحب غرناطة ادريس بن حبوس فانهزم ابن عباد فتحالف مع صاحب قرمونة ابن عبدالله البرزالي ضد صاحب باجه ابن الأفطس فاشتد عود اشبيلية وقوي نفوذها.

تولى الإمارة المعتضد بن عباد بعد وفاة والده القاضي سنة 433 هجرية (1042م) فقام بالاستيلاء على غرب الأندلس وضم شلب إلى إمارته، ثم برية ولبلة وشلطيش، وجبل العيون في سنة 443 هجرية. ودخل المعتضد في صراع مع المظفر بن الأفطس، ثم حارب أمراء غرب الأندلس (ابن يحيى، ابن هارون، ابن مزين، والبكري) وقام بالاستيلاء على قرطبة وضمها إلى ملكه في سنة 457 هجرية (1065م) بعدهاحارب صاحب الجزيرة القاسم بن حمود، واستولى سنة 458 هجرية (1066م) على قلعة اركش وسائر بلاد شذونة.

برزت دولة المعتضد كقوة مركزية بين أمراء الطوائف واستمر واليا عليها إلى وفاته سنة 461 هجرية (1069م) فورثه ابنه المعتمد بن عباد في السنة نفسها وحاول أعادة توحيد إمارات الأندلس في دولة واحدة على غرار ما كانت عليه في العهد الأموي فضم خراج سبته في الأندلس إلى إمارته في سنة 465 هجرية (1073م) لكنه فشل في مشروعه التوحيدي بسبب الانقسامات المحلية وبروز الفرنجة كقوة عليا في الأندلس في وقت ظهرت فيه دولة المرابطين في المغرب.

آنذاك امتدت شوكة الملثمين (المرابطون) من جنوب المغرب وصولا إلى الحدود المتاخمة لبلاد السودان صعودا إلى تلمسان وامتدادا إلى ساحل البحر المحيط (الأطلسي) بعيدا عن تنافس أمراء الطوائف ورقابتهم. ولاقت حركة المرابطين الدعم من مركز الخلافة العباسية في بغداد وقام العلماء والفقهاء بتشجيعها كقوة توحيدية في منطقة تعرضت إلى انقسامات خرجت منها دويلات استفادت من النزاع العباسي - الفاطمي على بلاد الشام والنزاع العباسي - الأندلسي على المغرب، فأثارت الاضطرابات وأضعفت هيبة المركز وقطعت صلته بالأطراف

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2366 - الخميس 26 فبراير 2009م الموافق 01 ربيع الاول 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً