نزعم اننا محررون إلا اننا انقلبنا الى طغاة. اننا نطرح عطاء الإرهابيين نفسه. اننا نطلق دائرة شريرة من العنف. ان غزو العراق لا يمكن تبريره. ان الحرب الأميركية على الإرهاب قتلت أبرياء أكثر من ضحايا هجمات 11 سبتمبر/ أيلول على الأراضي الأميركية. ان صور الانتهاكات في سجن أبوغريب لم تكن مجرد قضية بضع تفاحات فاسدة، لكنها طريقة عمل تسامحت معها السلطات بل شجعت عليها.
هذا الكلام ليس لي، ولا لأحد أفراد تنظيم «القاعدة» ولا لأحد أفراد فلول البعثيين أو «فدائيي صدام»، ولا لأحد مساعدي مقتدى الصدر، ولا لأحد المتحمسين العرب أو الفلسطينيين مثلا من عشاق الحماس لكل ما هو أو من هو عراقي، ولا لقائد من قادة الفصائل الفلسطينية أو اللبنانية المناهضة لـ «إسرائيل» والصهيونية المتهمة بالإرهاب ومعاداة السامية ومحور «الخير» الذي تتزعمه الإدارة الأميركية المحافظة، انه كلام الملياردير اليهودي الأميركي الشهير، وقاله خلال حفل تخريج إحدى دفعات كلية الشئون الدولية والعامة في جامعة كولومبيا في نيويورك قبل أيام.
وإذا ما أضفنا إليه مطالبة الفيلسوف والمنظّر الأهم للمحافظين الأميركيين الجدد صاموئيل هانتينيغتون، القوات الأميركية بالانسحاب من العراق «لأن وجودها هناك لا مبرر أخلاقيا له، فضلا عن انعدام المصالح الوطنية الأميركية التي تستوجب الدفاع عنها هناك وبالتالي استحالة تحقيق النصر».
فإننا نستطيع القول إن فصول الرواية الأميركية التي بدأت بتقسيم العالم الى محور للخير وآخر للشر، ومرت بالحرب على أفغانستان وتوجت فيما بعد بالحرب العالمية على الإرهاب، ومن ثم بـ «دمقرطة العالم» انطلاقا من «الشرق الأوسط الكبير» وواحته النموذجية في العراق، قد وصلت الى نهاياتها في «مختبر» أبوغريب!
وكما تقول المستشارة في العلاقات الأميركية - العربية ماغي مينشل سالم: «أنا آسفة، ولكن حان الوقت لتسمعوا ذلك من أميركية عادية. وعلى رغم اسمي الأخير فأنا لست عربية أميركية، انني واحدة من عشرات الملايين من الأميركيين غير المسلمين ومن غير العرب، الذين شعروا بالعار والاشمئزاز من الافعال المشينة والتعذيب والاهانات التي ألحقها بعض جنودنا بالعراقيين والأفغان. لقد أرهقتني الأكاذيب التي قادت بلادي الى هذه الحرب. ويقلقني ان بلادي فقدت أرضيتها الأخلاقية».
انها نهاية مأسوية وحزينة ومشفقة فعلا للمواطن الأميركي العادي الذي ضللته المخابرات والمخابرات العسكرية ومجموعة صغيرة من السماسرة وتجار الحروب الأميركيين والمتعاونين معهم من «العراقيين» الذين فضلوا للأسف الشديد ان يتحولوا الى أدلاء رخيصين ودلالين بائسين يتقدمون قوات الاحتلال في بيع مقدرات الوطن والأمة.
لقد حانت ساعة المحاسبة والمساءلة ودفع الأثمان من قبل كل من شجع وساهم في تحويل المشهد العراقي والمشهد الإقليمي والمشهد الدولي الى ساحة حرب غير مبررة أخلاقيا ولا تخدم أحدا حتى «المصالح الوطنية الأميركية».
سمعت حديثا من مواطن عراقي مسئول، فرح كثيرا بسقوط نظام الدكتاتور والطاغية صدام، وقبل على مضض بأن تكون الأداة لتلك الإطاحة أميركية. يقول: «بعد مضي ما يزيد على العام، نشهد للأسف الشديد بأن بلادنا مشهدا ومسرحا لكل ما هو سيئ في العالم، فقد استبدلوا دكتاتورية بدكتاتورية أبشع، وقمع بشع بقمع أبشع وانتهاك لحقوق الإنسان بانتهاك أبشع وأسلحة دمار شامل لم يجدوها بأسلحة دمار شامل منتشرة على طول البلاد وعرضها، وإرهاب دولي لم يكن موجودا فأوجدوه، وعداوات مع الجيران، كنا ظننا انها ولت إلى غير رجعة، بعداوات جديدة أكثر تعقيدا. وسلم اجتماعي كان متوافرا ولو تحت سقف قمعي شامل، بأضغان وأحقاد اجتماعية وقومية ومذهبية تنذر بحروب طائفية وأهلية مدمرة. وكل ذلك تحت شعار التحرير ونشر الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان.
السؤال المشروع الآن الذي يلح بكل قوة على كل مواطن حر وديمقراطي مستقل في منطقتنا العربية والإسلامية هو: هل فعلا لم يكن بالإمكان حصول التغيير في العراق إلا بأيدٍ أجنبية وعن طريق الحرب والغزو حصرا؟
وهذا السؤال مطروح على حكام المنطقة كما على نخبها، وخصوصا تلك المتحالفة أو الصديقة للدوائر الأميركية وخصوصا على تلك النخب المروجة الأوحدية التغيير عن طريق الاستقواء بالخارج على الداخل! بحجة انه لا حيلة للمواطن ولا حيلة للنخبة ولا حيلة لأحد في بلادنا إلا الاستعانة بوسائل الضغط الأجنبية وتحديدا الوسائل العسكرية والتأديبية!
على العكس من ذلك تماما فإنني أرى وأظن ان العرب من المتتبعين المخلصين يرون مثل ذلك بأن تجربة العراق المأسوية وما آلت إليه العملية العسكرية الأميركية - البريطانية في العراق انما تعطي الدليل الساطع والبرهان الناطق بأن التغيير بأيدٍ أجنبية وعن طريق الغزو والعنف لا يمكن أن يأتي إلا بالخراب والدمار والى مزيد من التدهور العام بل الى إجهاض العملية الديمقراطية، وكل محاولات التطوير الطبيعية في البلد المعني وارجاعه عشرات السنين الى الوراء.
وان الحل الوحيد الناجح والمؤهل لخدمة العملية التغييرية إنما يكمن في مزيد من الصبر والتروي وقبول تحدي التغيير السلمي «البطيء» والمتدرج القائم على الحوار وتعبئة الشارع بثقافة الرأي والرأي الآخر وتقديم التضحيات مهما كانت جساما على هذه الطريق.
لقد ثبت من خلال تجربة العراق أن التغيير عن طريق الغزو والحرب الخارجية إنما هو استمرار لمقولة الانقلابات العسكرية التي كانت سائدة أيام الستينات والسبعينات، الانقلابات التي لم تكن وراءها إلا القوى الأجنبية الطامعة في ثروات بلادنا وتأمين مصالح فئات «وطنية» على حساب الشعب ومقدرات الوطن بأكمله.
لذلك فقد آن الأوان لوقف المسرحية الهزيلة الجارية في العراق التي يراد لها ان تستمر بأشكال متغيرة في بلدان «الشرق الأوسط الكبير». كما آن الأوان لمحاسبة كل من سولت له نفسه ان يبيع نفسه للأجنبي وكل من لايزال يتجاسر على الأوطان والمقدرات بحجة الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 636 - الأربعاء 02 يونيو 2004م الموافق 13 ربيع الثاني 1425هـ