العدد 636 - الأربعاء 02 يونيو 2004م الموافق 13 ربيع الثاني 1425هـ

حرفة القتل... كيف يمكنك الكتابة عن الحرب بشكل محايد؟!

صدر عن دار النشر الألمانية (سور كامب) في مدينة فرانكفورت رواية جديدة للكاتب نوربرت جشتراين تحت عنوان «حرفة القتل» وتقع الرواية في 384 صفحة. تقوم رواية الأديب الألماني الجديدة والتي حصل من خلالها أخيرا على جائزة «أوفه يونسون» الشهيرة، على محاور ثلاثة هي: حرب البلقان وهيلينا الشابة الجميلة وثلاثة صحافيين يبحثون عن القصة الحقيقية. يحاول الأبطال الثلاثة في هذه الرواية وبطبيعة الحال الكاتب نفسه أيضا التفاعل مع سؤال كبير هو: كيف يمكن أن تكتب قصة عن حرب بشكل محايد في وقت تشغل فيه الدعاية والإعلان حيزا واسعا من حياتنا؟

يهدي نوربرت جشتراين روايته هذه إلى مراسل مجلة «شتيرن» جابرييل جرونر الذي قتل في كوسوفو العام 1999. كان قدر هذا الصحافي (جرونر)، الذي يقول عنه الكاتب جشتراين: إني لا أعرف عن حياته أو موته إلا القليل، وأقل ما أستطيع عمله أن أحكي قصته. هو ما دفع الكاتب إلى أن يكتب رواية غير وثائقية، وأن يستبدل شخصية جرونر بشخصية خيالية لمراسل صحافي نمسوي اسمه كريستيان ماير وضعه في بؤرة السرد وجعله يخبر منذ بداية العمليات الحربية عن انهيار يوغسلافيا ويقتل غدرا في كوسوفو العام 1999.

خلف هذا المراسل الصحافي من ورائه عددا لا يحصى من مذكراته وسجلاته الخاصة، إلى جانب ما نشر له من مقالات وتحقيقات صحافية عن الحرب، وكذلك تسجيل صوتي لمقابلة له مع القائد الكرواتي سلافكو. لم تكن هذه المقابلة مع واحد من الكثيرين الذين احترفوا القتل، هي مفتاح فهم حياة جابرييل ماير فحسب، بل هي مفتاح فهم الرواية كلها، إذ إن إجابة هذا الشخص عن السؤال الأساسي الذي طرحه ماير عليه وهو: ما الشعور الذي ينتاب الإنسان عندما يقتل أحدا؟ تقود ماير إلى مسألة الذنب والمسئولية عن الحرب البشعة والتي تنال أخلاقها المرعبة فيما بعد منه هو شخصيا.

كان هذا المصير الدرامي الذي انتهى إليه جابرييل ماير هو ما هيأ لصديقه باول - الصحافي وكاتب أدب الرحلات الناجح إلى حد ما - الظرف المناسب بعد طول انتظار لتحقيق مشروعه الروائي المؤجل منذ سنين. أمدته قضية جابرييل ماير على رغم كل الحزن والغضب بسبب تلك الجريمة البشعة على ما يبدو بالحدث الذي طالما انتظره ليكون موضوع روايته الكبيرة. يبدأ باول البحث المستفيض في حياة ماير وعمله الصحافي بعد أن سيطرت عليه فكرة كشف النقاب عن سر الموت العنيف لصديقه. كما يسافر هو وصديقته هيلينا وصحافي آخر صديق له إلى مناطق القتال السابقة في كرواتيا والبوسنة.

يشبك باول نفسه أكثر وأكثر، وهو غارق في خططه محاولا معرفة سياق وفاة ماير في البلقان، ويحاول العمل في نسيج من إعادة تركيب للحوادث وتخمينات وبناء للأساطير. وكان لابد له في النهاية أن يستيقظ من وهمه وأن يعرف أن مجرد وجود ميت ليس كافيا لكتابة رواية. وصل إلى مرحلة لم يعد يفصل عندها بين الحياة والكتابة، بين الواقع والخيال، حتى أن إدراكه لوجود صديقته هيلينا أصبح في حدود الدور الذي أعطاه لها وهو ما سماه «ضابط الاتصال الأول لواقي الروائي» لم يبق له سوى النتيجة الحزينة وهي أن يودع مشروعه الروائي بالفشل كذلك أن يودع الحياة نفسها، إذ انتحر في غرفة في أحد فنادق مدينة زغرب تاركا رسالة مؤلفة من جملة واحدة: سأتوقف عن الكتابة. وهذه في الحقيقة جملة للشاعر الإيطالي سيزار بافيزة من كتابه «حرفة الحياة». يحاول باول أن يوثق العلاقة الصعبة بين حرفة القتل وحرفة الكتابة، وهكذا يهلك باول كما هلك قبله ماير بسبب الكتابة عن الحرب وتبعاتها بالنسبة إلى الفرد. كان عليه أن يعرف في المكان نفسه أن الطبيعة التي يسير خلالها هي مشاهد ما بعد المجزرة وأن الوقت للكتابة عنها كان من البداية متأخرا لأنه لا يمكن بها إعادة ميت للحياة.

بعد نهاية باول الحزينة يرى الشخص الذي يقوم بدور الأنا الحاكية للرواية، أن واجبه الأخلاقي يدفعه إلى أن يكمل المشروع الروائي الذي بدأه باول فكانت نتيجة المحاولة الثالثة التقرب من المستحيل، الحكاية عن الحرب، هي تلك الرواية التي نحن بصددها. إن هذا الشخص الراوي ينحو نحو باول وهو ما عبر عنه قائلا: إنه الحلم بكتابة رواية في أي وقت، رواية تساعد الإنسان على تحمل الحياة، رواية تعوضه، دون أن أستطيع القول عن ماذا.

يسرد الراوي القصة كلها، سواء قصة ماير أو قصة باول وهيلينا، بشكل تحليلي وينتج وعن وعي كامل منه، نصا مناقضا لكتابات باول وحياته التي كانت أهم سماتها هي ابتعادها عن الواقع بشكل كبير. فهو يكتب مخالفا في ذلك باول، ومكافحا ضد أن تموت هيلينا، وذلك بدافع حيوي منه هو تصحيح العلاقة بين الواقع والخيال. إن الراوي يعشق هيلينا مثلما كان باول يعشقها.

إن النص الروائي الذي ألفه جشتراين هو بكل وضوح، وللوهلة الأولى، محاولة منظمة للسرد، ليست خالية تماما من التعقيد. فمن ناحية كان نتاج البنية الثلاثية التركيب لسرد الحوادث حقيقة وذلك بغض النظر عن التلميح إلى رواية «جنون ماير» للكاتب الإنجليزي جوزف كونراد، هو الابتعاد عن الخوض في تفاصيل الحرب، ولكن هذا ضمن للكاتب جشتراين من ناحية أخرى الحرية الأدبية التي مكنته من التحليق بعرضه الروائي بعيدا عن الواقع مع عرض الحرب عرضا صادقا ومؤثرا.

إن رواية «حرفة القتل» تسهم بذلك أولا: إسهاما أدبيا في النقاش الدائر عن التركيبة الإعلانية للواقع وتوظيف نقل الأخبار عن الحروب. ثانيا: تعرض رواية جشتراين أطروحة مهمة بشأن استحالة تقليص حقيقة حدث وقع فعلا ووضعها في إطار عام ساري المفعول. وثالثا: وهو الأهم أن جشتراين نجح في أن يقدم الأفكار اللغوية والمعرفية النظرية ملفوفة في عباءة التحريات البوليسية. أعطى الزج بين الانطباعات الواقعية عن الرحلة وقصة الحب الثلاثية للرواية سحرها الخاص وجعلها متعددة النواحي. يعرض جشتراين في لغة مبتعدة عن الخوض في التفاصيل ولكنها في الوقت نفسه دقيقة الملاحظة وبأسلوب فريد في أحدث رواياته، كيف يمكن للمرء أن يحكي عن الحرب بشكل بعيد عن التقليد والمظهرية ومتخليا عن لغة التعبير الصحافي؟





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً