لقد مضى اكثر من ستة أعوام منذ أعلنت الحكومة توجهاتها لجعل مملكة البحرين مركزا إقليميا للتدريب وتنمية الموارد البشرية، والتي اعتمدت في تقديرنا على عنصرين رئيسين أولهما أن البحرين دولة رائدة في مجال التعليم والتدريب مقارنة بدول مجلس التعاون الخليجي، وثانيهما ان البحرين تعتبر الأقل إنتاجا للنفط مقارنة بدول المجلس إذ ان مساهمة هذا المورد في الدخل القومي لا تتجاوز الـ 30 في المئة وبالتالي فإن تنوع مصادر الدخل وتسريع مشروعات البنية التحتية وتوفير العمالة المدربة من أهم الخطوات التي اتخذتها القيادة السياسية في البحرين من أجل تشجيع الاستثمارات وبالتالي تقليص العجز في موازنة المملكة والناتج عن التوسع في تنفيذ مشروعات البنية التحتية يقابله تدفق استثماري أقل بكثير من سقف التوقعات في ظل غياب التخطيط الاستراتيجي والشلل الذي أصاب مجلس التنمية الاقتصادي.
ولكن التساؤل المحوري هنا هو إلى أي مدى نجحت حكومة البحرين ممثلة في وزارة العمل والشئون الاجتماعية في جعل البحرين مركزا إقليميا للتدريب وتنمية الموارد البشرية؟ وهل أصبحت صناعة التدريب مجالا خصبا ومشجعا للاستثمارات الوطنية والأجنبية؟
نعتقد بأن فترة الستة أعوام كافية للتقييم وتسليط الضوء على وضع ومستقبل سوق التدريب في ظل تلك التوجهات الحكومية.
لا يختلف اثنان من العاملين في مجال التدريب وتنمية الموارد البشرية في البحرين بأن سوق التدريب في المملكة تعاني من الكثير من الفوضى والتخبط وسوء التنظيم، فانتشار شركات التدريب يشابه انتشار البقالات في الأحياء السكنية. أما مستويات التدريب ونوعيته وجودته فحدث ولا حرج. يكفي أن نعرف انه يوجد بالبحرين أكثر من 140 شركة تعليم وتدريب خاصة، تتوزع مسئولية الإشراف عليها بين وزارة التربية والتعليم ووزارة العمل والشئون الاجتماعية في بلد لا يتجاوز مجموع سكانه الأجانب والمواطنين الثلاثة أرباع مليون نسمة، في حين أن بلدا كسنغافورة وعلى سبيل المقارنة والتي يبلغ مجموع سكانها حوالي 3,7 ملايين نسمة لا يتجاوز عدد شركات التدريب فيها الأربعين شركة!؟
إن الوضع الحالي لسوق التدريب في البحرين يثير الكثير من التساؤلات لدى المهتمين، من خبراء واستشاريين ورجال أعمال والعاملين في هذا القطاع، ولعل أهم الأسئلة التي يمكن ان تثار هنا: عندما قررت مملكة البحرين منذ أكثر من ست سنوات أن تكون مركزا إقليميا للتدريب وتنمية الموارد البشرية، هل جاء ذلك الإعلان ضمن استراتيجية عامة وخطة عمل مقترنة بآليات تنفيذ؟ هل رصدت موازنة كافية لتنفيذ تلك التوجهات؟ أين استراتيجية التدريب والتنمية البشرية وبعد مضي أكثر من سبعة عشر عاما على تأسيس المجلس الأعلى للتدريب المهني؟ ولماذا مازالت سياسات الحكومة تجاه التدريب وتنمية الموارد البشرية عبارة عن ردود فعل (عندما يقع الفأس في الرأس) تخصص الموازنات؟ أين قانون التدريب الذي ينظم سوق ومهنة التدريب؟هل توجد علاقة استراتيجية بين التدريب واحتياجات سوق العمل الحالية والمستقبلية؟
ولتسليط الضوء على تلك الأسئلة سنقوم بتحديد العوائق والمشكلات التي تعاني منها سوق التدريب بمملكة البحرين، والتي كان لها الأثر البالغ في تقديرنا، في فشل توجهات الحكومة في جعل البحرين مركزا إقليميا للتدريب وتنمية الموارد البشرية، ومن ثم تشخيص وتحليل الاسباب التي أدت الى تلك المشكلات.
غياب الاستراتيجية
لقد مضى أكثر من ثمانين عاما على بداية مسيرة التعليم في البحرين وأكثر من سبعة وعشرين سنة على تأسيس المجلس الأعلى للتدريب المهني، وحتى تاريخنا هذا نجد أن هذا الاختلاف الشكلي القائم بين وزارة التربية والتعليم ووزارة العمل والشئون الاجتماعية بشأن عمليتي التعليم والتدريب من يتبع من؟ أو أيهما يأتي قبل الآخر: التعليم أم التدريب (الدجاجة أم البيضة)، على رغم أن الوزارتين قد شكلتا لجانا للتنسيق في هذا المجال ولكن لم نجد حتى الآن نتائج ملموسة على أرض الواقع بالنسبة لوضع استراتيجية متكاملة الجوانب تربط بشكل استراتيجي عمليتي التعليم والتدريب باحتياجات سوق العمل الحالية وتستشرف الحاجات المستقبلية!؟ وإن وجدت تلك الاستراتيجية كما صرح سعادة وزير التربية والتعليم في لقاء صحافي نريد الاطلاع على ملامح تلك الاستراتيجية، رؤيتها وأهدافها وآليات تنفيذها (البرامج والخطط).
القصور في التشريع
على رغم وجود المرسوم بقانون (25) للعام 1998 والذي ينظم الترخيص لـتأسيس شركات ومؤسسات التدريب في القطاع الخاص إلا أن هذا القانون يشوبه الكثير من القصور فهو لا ينظم سوق التدريب ولا يعالج مستويات وجودة ونظم التدريب وبالتالي فإن هذه المشكلات المهمة والتي تؤثر كما ونوعا على عملية التدريب برمتها تركت للاجتهادات المؤسسية والفردية.
أما على صعيد مهنة التدريب فلا يوجد تشريع ينظم مهنة التدريب والأمور ذات العلاقة بها، فمهنة التدريب أصبحت مهنة من لا وظيفة له، وهذا في اعتقادي انعكس سلبا على مستويات ونوعية مدخلات ومخرجات التدريب.
عدم وجود الجهاز المنظم لسوق التدريب
لعل أهم الأسباب التي أسهمت بشكل كبير في ما يعانيه سوق التدريب من مشكلات هو غياب الجهاز المستقل المنظم لسوق التدريب، فقد أدى ذلك إلى إضعاف صدقية التوجهات الحكومية في جعل البحرين مركزا إقليميا للتدريب، إذ عمت الفوضى في ظل غياب مثل هذا الجهاز المستقل وانعكس سلبا على عملية جذب المستثمرين من الداخل أو الخارج من جهة كما ساعد على دخول سوق التدريب أشخاص يتسمون بالانتهازية وعدم الاحترافية من جهة أخرى.
تدني مستوى الشفافية
تتسم البيانات المتوافرة عن سوق التدريب بالضبابية وعدم الثبات، كما لا يوجد مصدر يمكن أن يعتمد عليه فيما يتعلق بشئون وقضايا التدريب في البحرين، ما ترك الباب مفتوحا على مصراعيه للتكهنات والتقديرات التي لا يمكن أن تبنى عليها الحقائق، فمثلا لا توجد إحصاءات دقيقة عن حجم الاستثمارات السنوية في سوق التدريب، ومدخلات تلك الاستثمارات ومخرجاتها، كما لا تتوافر إحصاءات دقيقة عن عدد الشركات الأجنبية والوطنية التي دخلت سوق التدريب منذ إعلان الحكومة توجهاتها لجعل البحرين مركزا إقليميا للتدريب، كما لا تتوافر بيانات عن عدد الشركات ونوعيتها التي أنهت أعمالها في البحرين والأسباب التي أدت إلى ذلك...الخ. وما يساهم في تقديري بشكل كبير في تدني مستوى الشفافية هي المنافسة غير المتكافئة بين المعاهد الحكومية أو المدعومة حكوميا مثل معهد البحرين للتدريب ومعهد البحرين للدراسات المصرفية وجامعة البحرين بحيث يسمح لهذه المؤسسات بالمشاركة في المناقصات التي تطرح من قبل الحكومة في مجال التدريب على رغم أن قيادات هذه المؤسسات التعليمية وموظفيها يعينون من قبل الحكومة. إن مثل هذا الوضع من دون شك يضعف الثقة في سوق التدريب.
تواضع إمكانات وضعف البنية التحتية للتدريب
من خلال متابعتي لشئون وقضايا التدريب في البحرين تبين لي أن الحكومة عندما أعلنت عن جعل البحرين مركزا إقليميا للتدريب لم تكن تملك خطة واضحة المعالم ولا آليات لتنفيذ التوجهات التي أعلنتها، فكانت عبارة عن مجموعة أفكار وتوجهات تم الترويج لها إعلاميا من دون رؤية واضحة لما هو مطلوب تحقيقه، وما هو مطلوب من الجهات الأخرى المعنية سواء في القطاع الحكومي أو الخاص أن تقوم به. فالجهاز المعني بالترويج لتلك التوجهات عبارة عن مكتب في وزارة العمل يعمل به ثلاثة موظفين، ولا يملك أي موازنة وليست له صلاحية واضحة ضمن جهاز الوزارة، فكيف يمكننا الترويج للبحرين في مجال التدريب إذا كنا لا نملك الجهاز القادر على ذلك، والموازنة التي نحقق من خلالها التوجهات المطلوبة؟
إحجام رؤوس الأموال عن الاستثمار في التدريب
لو نظرنا بعين فاحصة إلى تركيبة سوق التدريب في المملكة وقمنا بتصنيف المستثمرين في هذه السوق فماذا نجد؟ بإمكاننا تصنيف شركات التدريب الى ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى: مؤسسات حكومية أو شبه حكومية مثل معهد البحرين للتدريب ومعهد البحرين للدراسات المصرفية، وهذه يتم تمويلها مباشرة من الحكومة من خلال رسوم التدريب التي تدفعها الشركات التي بها 50 عاملا فأكثر ويسمح لها كما أسلفنا القول بالحرية المطلقة في التنافس مع شركات القطاع الخاص؟!
المجموعة الثانية: مؤسسات تدريب قامت بتأسيسها بعض الشركات الخاصة، وهذه عادة ما تستخدم لتدريب موظفي تلك الشركات وبعض العاملين في شركات القطاع الخاص من الذين لهم مصلحة مع الشركة الأم.المجموعة الثالثة: عبارة شركات تدريب قامت من خلال اجتهادات فردية من خلال عدد من البحرينيين كانوا موظفين في القطاع الخاص واستطاعوا بإمكانات محدودة ان يؤسسوها. وهذه الشركات تتسم بعدم الاستقراري وكثير منها خرج من السوق أو انه يقوم بأنشطة لا تمت للتدريب بصلة، وذلك بالطبع في ظل الفوضى التي تتسم بها سوق التدريب.
وما نريد الوصول إليه انه في تقديرنا لا يوجد استثمار حقيقي وطني أو أجنبي في سوق التدريب من خلال كبار اصحاب الاعمال في المملكة. إن الشركات الكبيرة العاملة في مجال التدريب وتنمية الموارد البشرية، وهذا في تقديري أثر سلبا على عدم قدرة الحكومة في تنفيذ توجهاتها بجعل البحرين مركزا اقليميا للتدريب باعتبار أن من أهم المقومات التي يعتمد عليها مثل هذا التوجه وجود الاستثمارات الوطنية والاجنبية. ويمكن ان تعزى أسباب احجام الرأسمال الوطني أو الرأسمال الأجنبي في دخول سوق التدريب الى عدة امور لعل أهمها الفوضى التي تسود هذه السوق ما ادى الى وجود الفسادين الاداري والمالي، أضف الى ذلك تدني مستوى الشفافية بالإضافة إلى أسباب أخرى ذكرناها آنفا.
من هنا يتبين أن ما أعلنته الحكومة قبل أكثر من ست سنوات لجعل البحرين مركزا اقليميا وتنمية الموارد البشرية قد ذهب ادراج الرياح. ومن هذا المنطلق أتمنى من الحكومة ان تقدم لنا ولو تقريرا واحدا عن النسب المستهدفة السنوية للاستثمار في سوق التدريب والنسب الفعلية السنوية من الاستثمارات التي دخلت سوق التدريب خلال السنوات الست الماضية ونسبة حجم الاستثمار في سوق التدريب الى مجموع الدخل القومي... الخ.
أعتقد جازما أن ما قدمته من تحليل عن إحدى التوجهات الحكومية الاستثمارية هو غيض من فيض، على ان الحكومة لا تملك استراتيجية اقتصادية استثمارية، وما هو متوافر عبارة عن سياسات ردود فعل وانصاف حلول، وقد أطلقت عليها اسم مسيرة منتصف الطريق!؟ (Half Way Job)
إقرأ أيضا لـ "عيسى جاسم سيّار"العدد 635 - الثلثاء 01 يونيو 2004م الموافق 12 ربيع الثاني 1425هـ