كشف تقرير سري نشرت تفاصيله في العاصمة الاردنية عمّان عن تقاطعات سياسية خطيرة تتعلق بالأمن القومي والاقليمي والدولي تجري في ثلاث من العواصم الخليجية داخل مراكز الدراسات وبعضها ملحق بقصور الحكم، وُرش بحث نشطة تشتغل على موضوع الأمن الاقليمي لمرحلة ما بعد صدام حسين. يشارك في هذا الجهد المتصل، اكاديميون ومستشارون من ابناء المنطقة، بالاضافة الى ذوي اختصاص وتجربة من دول عربية، ومعهم باحثون من عدة مراكز بريطانية واميركية للدراسات الاستراتيجية، وبالذات المراكز ذات الصلة بصناعة القرار والتي انتقل اليها مسئولون سابقون في الخارجية والدفاع ممن كانت لهم مسئوليات تنفيذية في منطقة الشرق الاوسط.
بحرفة عالية وضمن فضاءات نشطة تسمح للمخيّلة السياسية ان تتحرك من دون حرج، يجري استشراف الاحتمالات المستقبلية للأمن الخليجي باعتباره القضية الإطار المستحقة والتي لا تمتلك الولايات المتحدة أو بريطانيا أو الدول الخليجية تصورات جاهزة لها حتى الآن. فالاقليم - كما تتفق الآراء - يعيش حال سيولة بدرجة حرارة متزايدة، المزاج السياسي فيه تعكره الرؤية الغامضة والشكوك المبررة والانكشاف على تحدّيات داخلية بدأت تنفلق وتحتل أولوية كانت طوال العقود الماضية تعطى للتهديدات الخارجية.
ويقول التقرير الذي نشرته صحيفة «الرأي» الأردنية ان جدلية الأمن الخليجي لم تعد مرتبطة بالمسألة الفلسطينية كما كان الحال حتى سنتين أو ثلاث خلت.
مؤكدا أن صوغ منظومة جديدة لأمن الاقليم النفطي كان يمكن ان يكون أسهل لو أن دولة فلسطينية قامت بعد محادثات «كامب ديفيد 2»، أو لو أن خريطة الطريق بقيت المرجعية المعتمدة في خطة الانسحاب الاسرائيلي الأحادي الجانب من غزة، لكن ورش البحث الخليجية تكاد تتفق على ان الحل الفلسطيني الحقيقي غير منظور. بل إن هناك من يذهب أبعد وأصعب، في الاعتقاد بأن الأشهر الستة المتبقية من العام الجاري حرجة جدا في ظل الانشغال الاميركي بانتخابات الرئاسة التي تتآكل فيها حظوظ جورج بوش لصالح رئيس ديمقراطي غير مقنع. وفي ضوء البرنامج الغامض الذي يعمل به ارييل شارون لإعادة تفكيك ما بقي من مفهوم الدولة الفلسطينية التي إن قامت في غزة فانها ستشكل بداية عهد جديد طويل من المشكلات والحساسيات في منطقة بلاد الشام ومصر.
وفي حدود هذه الرؤية المملوءة بالسيناريوهات المفتوحة، نشأت وترسخت قناعات خليجية واميركية بأن انتظار الحل الفلسطيني مسألة يمكن ان تطول، بينما أمن الاقليم النفطي الذي يتحكم بالاقتصاد العالمي مسألة لا تحتمل الانتظار. واصبح النقاش في ورش المستقبليات يبدأ من فك الارتباط بين النفط وفلسطين، وينتهي باعادة الربط بينهما لاحقا في اطار ما اسمته الادارة الاميركية بـ «الشرق الاوسط الوسيع»... إعادة الربط بين النفط وفلسطين في منظومة أمنيّة على النسق الاوروبي الاطلسي يأتي لاحقا وليس قبل 10 - 15 سنة عندما تصبح انظمة الشرق الاوسط ديمقراطية علمانية قادرة على تصنيع الأمن الجمعي وتسويقه لدى شعوبها بلا حرج أو مواربة.
هي سيناريوهات يخالطها الكثير من أحلام اليقظة المرعوبة، لمنطقة مشحونة بالأجندات الصغيرة والكبيرة، ومجرد التقاء قادتها في قمة شاملة اضحى مسألة تفضي إلى الفرقعة على شاشات الفضائيات.
في الخليج يمكن للتاريخ ان يخرج من القبر في أية لحظة، هيكلا عظميا يمشي ويتكلم ويحرض، بحسب سياسي خليجي متقاعد، في جلسة مسائية متأخرة.
استحضار التاريخ الخليجي للسنوات الثلاثين الماضية، يعيد تأكيد البديهيات التي تقول انها منطقة تمتلك اهمية جاذبة للشهوات الدولية، بقدر ما تمتلك من الاشكالات الداخلية الطاردة والتي تجعل الوجود الخارجي فيها مكلفا. ولذلك غادرتها بريطانيا (عسكريا وليس سياسيا) في نهاية الستينات وتركتها للولايات المتحدة ترابط بين آبارها المشتعلة وتغرز في رمالها المتحركة.
حتى مطلع السبعينات من القرن الماضي، ظلت بريطانيا تتولى مظّلة الأمن الخليجي منفردا، وتتشارك نفطيا مع الولايات المتحدة. الرقابة الشرطية على الارض كانت متروكة لشاه ايران. وقد جاء الانسحاب البريطاني من شرق السويس ليسلّم مظلة الحماية للولايات المتحدة التي اعتمدت - حتى العام 1990 - سياسة الايدي المرفوعة Hands Off، مع استثمار توازن القوى بين الأعمدة الثلاثة: مجلس التعاون والعراق وايران.
في حرب احتلال وتحرير الكويت انكسرت قاعدة توازن القوى الاقليمية، لتجد واشنطن نفسها مضطرة لتجريب اساليب وأدوات جديدة، بدءا من رفع عدد قواتها المنتشرة في سلسلة من القواعد العسكرية المحكومة لاتفاقات ثنائية، وانتهاء بتطبيق مهزوز لسياسة الاحتواء المزدوج تجاه العراق وايران.
وخلال عقد التسعينات كانت تجري تحت السطح الخليجي، اعتمالات اجتماعية - سياسية من النوع الذي لم يستوعبه العقل الاميركي ولم يحتط له. والمقصود بذلك ظاهرة ابن لادن والتطرف الديني الذي انفجر بأحداث 11 سبتمبر/ أيلول تحت شعار الضغط على اميركا لتسحب قواتها من ارض الجزيرة العربية، وهي الظاهرة التي توصف بأنها حريق متنقل يتغذى بالاخطاء اليومية التي تقترفها أو تقع فيها السياسات الاميركية وقواتها التي «لن» تغادر المنطقة، كما يقول اشرف كشك ويتفق معه الكثيرون.
وتؤكد «الرأي» ان الاحتلال الاميركي للعراق واسقاط نظام صدام حسين (وهو القرار الذي تبين أخيرا انه اتخذ مباشرة بعد احداث 11 سبتمبر وربما قبل ذلك) لم يعالج المخاوف الخليجية بل زاد من حدتها. فقد جاء متأخرا بخمس عشرة سنة على الأقل بحسب اثنين من الباحثين الكويتيين. كما جاء خلوا من الرؤية المستقبلية الواضحة للنموذج الديمقراطي الذي يراد بناؤه في العراق على امل ان يكون نموذجا للخليج وبلاد الشام. وعلى سبيل المثال فان الاميركان - كما هي المعلومات المتوافرة - تحفظوا في البداية أو عارضوا مشروع عودة النظام الملكي الدستوري للعراق، لكنهم الآن يكتشفون أن هذا المشروع قد يكون الحل العملي الأقرب لكسر مغالق الأزمة بعد انتهاء المرحلة الانتقالية الجديدة التي تبدأ مطلع يونيو/ حزيران.
شاهد آخر على الارتباك في الرؤية الاميركية، والكلف العالية التي ستدفعها المنطقة جراء هذا الارتباك الاميركي، هو الدور الذي تعمل واشنطن على إعطائه للشيعة في العراق على قاعدة حجمهم السكاني، وهي قاعدة يسود الاعتقاد بأنها ستفتح فصلا جديدا من الطموحات القديمة والهواجس المتجددة التي ستتجاوز حدود الخليج ولتاريخ طويل قادم.
ضمن هذا الإطار المفتوح على رؤى واحتمالات معظمها قاتم، تتابع المراكز البحثية الخليجية ندواتها المغلقة التي بدأتها قبل سنة بهدف صوغ مقترحات وبدائل لمنظومة أمنية للإقليم النفطي لابد ستعالج ثلاث مشكلات منظورة: معضلة الاستقرار العراقي، وقضية الاسلحة النووية الايرانية، واحتمالات الفوضى او الانكسار الداخلي في بعض دول الاقليم.
الإطار العريض الذي يستوعب هذه المشكلات الثلاث المتداخلة، يدعو الى:
1 - تصنيع عراق مستقر له إطلالة مائية على الخليج. عراق قوي لكن ليس الى حد تهديد الجيران، كما يقول كينيت بولاك من معهد بروكينغز الاميركي.
2 - ابقاء ايران تحت المراقبة وإدخالها في آليات الأمن الجماعي - كما يدعو المبعوث الاميركي السابق للقضية الفلسطينية مارتن انديك - مع تشجيع المعتدلين فيها كي تتوقف طهران عن دعم بعض تنظيمات الشيعة في العراق والخليج وبلاد الشام.
3 - ويدعو الى وضع دول الخليج على خط التحديث الجدّي، مع الاستمرار في حماية انظمتها من الاعداء الخارجيين والداخليين، وذلك تحت مظلة أمن اقليمية على غرار الاطلسي او منظومة الايسيان
العدد 635 - الثلثاء 01 يونيو 2004م الموافق 12 ربيع الثاني 1425هـ