ونحن على أعتاب الدخول في اتفاق تجارة حرة مع أميركا، وربما ندخل في اتفاق مشابه مع سنغافورة، نعود إلى سرطان يستشري في جسد البحرين، وهذا السرطان بإمكانه القضاء على أية فرصة لنمو الاقتصاد البحريني نموا سليما. هذا السرطان هو «العمالة السائبة»، أو ما يطلق عليه في البحرين «الفري فيزا».
الغريب في الأمر أن البرلمان لم يناقش الموضوع ولا توجد أية جدية في معالجة هذا المرض الخطير، والدراسة الوحيدة التي حاولت التطرق بصراحة إلى الموضوع كانت الدراسة التي أعدتها شركة «ماكينزي» في ديسمبر / كانون الاول الماضي برعاية ديوان سمو ولي العهد. وهذه الدراسة تطرقت إلى عدد الأشخاص الذين يعملون في السوق من دون سجلات صحيحة وقدّرتهم بـ 45 ألف أجنبي، ولكن هذا التقدير ربما أقل مما هو عليه، لأنه لا أحد يعلم العدد الحقيقي بعد انتشار وتوسع ظاهرة تزوير البطاقات السكانية. هذه الظاهرة التي نشرت عنها «الوسط» في نهاية العام 2002 ولكن لم يوضع حد لها، بل إن المؤشرات تدلل على اتساعها.
خطورة الأمر تزداد مع عدم وجود إحصاءات دقيقة وعدم معرفة الجهات الرسمية بمقدار اتساع وتجذر المشكلة. ولعل ما حصل قبل فترة لأحد الاشخاص خير دليل، فقد ظل ممددا في ثلاجة الأموات في مستشفى السلمانية أكثر من عام، وعجزت كل الأجهزة الرسمية عن معرفة الشخص... أصله وفصله ومتى جاء البحرين ومن أين. فالبطاقة السكانية التي كانت معه ثبت أنها لشخص آخر يعمل بطريقة رسمية ومازال حيا ولايعلم كيف تقمّص أحد شخصيته.
هذه الحال ليست فريدة من نوعها، فالبحرين مملوءة بالعمالة السائبة من كل حدب وصوب، وهؤلاء يمتصون الأعمال ولا تستفيد منهم إلا أقلية فاسدة تتسلم من كل عامل «فري فيزا» أموالا بمعدل عشرة دنانير للشخص كل شهر. والشخص الذي عنده مئة عامل «فري فيزا» يتسلم ألف دينار شهريا وهو جالس في منزله لا يعمل، وإنما هو عالة على البحرين ويستعبد أناسا استجلبهم بسبب حاجتهم إلى لقمة العيش.
كثير من الاقتراحات طرحت لمعالجة المرض السرطان، ولكنها جميعها تتعطل، لأن الذين يقفون خلف الظاهرة يعتقدون أنهم فوق القانون ولا توجد أجهزة رسمية قادرة عليهم. بإمكان الحكومة إلقاء القبض على الوسطاء الذين يجمعون الاموال شهريا من الـ «فري فيزا» ويسلمونها إلى الشخص المتنفذ الذي يتسلم المال. هؤلاء الوسطاء معروفون وإلقاء القبض عليهم سيقطع الصلة بين الـ «فري فيزا» والمتنفذين، ولكن لايبدو أن أحدا يستطيع القيام بذلك خوفا من المتنفذين.
هناك فكرة أخرى طرحها أحد المسئولين، وهي تحويل جميع العمالة السائبة إلى شركة مساهمة محدودة وأي شخص يود أخذ عمال يمكنه الاتصال بهذه الشركة للحصول على ما يريد منهم، وبالتالي فإن الأمر يصبح قانونيا ويتم القضاء على المشكلة تدريجيا، ولكن جميع الاقتراحات الجيدة تختفي (كما تختفي كل الاقتراحات والتعديلات الأخرى، مثل التعديلات التي ننتظرها منذ قرابة السنتين على قانون الصحافة). المشكلة إذا ليست في انعدام الحلول، ولكن في خوف الأجهزة من التعرض للمتنفذين وأصحاب المصالح الخاصة. وهذا الخوف يعني أننا قد نخسر أية فرصة لتنمية اقتصاد بلادنا بأسلوب قويم، وقد لا نستفيد من اتفاقات التجارة الحرة مع استمرار الأمراض السرطانية وعجزنا عن مواجهة هذه الأمراض واستئصالها
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 634 - الإثنين 31 مايو 2004م الموافق 11 ربيع الثاني 1425هـ