ماذا تعني «التعددية» في منظومة العلاقات الدولية؟ حتى الآن لا اتفاق على الجواب. فالمصطلح يحتاج إلى تحديد لوظائفه المفهومية وما يعنيه من دلالات اقتصادية وإشارات سياسية حتى يمكن اعتماده قاعدة نظرية لمعادلة «النظام الدولي الجديد».
مفهوم «التعددية» لم يتبلور في صيغته النهائية في اعتبار أن الكلمة استخدمت سابقا للرد على القطبية الأحادية التي حاولت واشنطن ابتكارها للتغطية على نمو النزعة الإمبراطورية في عهد جورج بوش الابن. كذلك استعملت لتطمين دول الاتحاد الأوروبي والصين بأن عهد العودة إلى زمن الثنائية والحرب الباردة وتقسيم أوروبا إلى معسكرين قد انتهى ولم يعد بالإمكان الارتداد إليه بعد حصول كل المتغيرات في هيكلية الدول.
المفهوم إذا جاء في سياق النفي السلبي لاحتمالين: رفض الأحادية، ورفض الثنائية. والسلب في الاتجاهين لا يعني أن مفردة «التعددية» استقرت تعريفا أو مصطلحا وبالتالي بات بالإمكان مقاربتها مفهوميا واعتمادها قاعدة جديدة لمنظومة العلاقات الدولية.
هناك لاشك مسافة زمنية لابد من تجاوزها حتى تتوصل الدول الكبرى والمعنية إلى إطار يضمن العلاقات ويضبط التوازنات في سياق يحترم المصالح. وهذا الأمر لايزال يحتاج إلى توضيح حتى يخرج مصطلح «التعددية» من نفق الغموض. الغموض يكتنف معنى الفكرة ومبناها. فهل تعني «التعددية» تجميع مراكز القوى الدولية وربطها في منظومة علاقات متوازية تمنع تفرد طرف أو فريق بالقرارات الكبرى. وهل تعني ابتكار صيغة مرجعيات للدول تحتضنها مؤسسة أممية جديدة تتخذ قرارات بالإجماع أو الغالبية. وهل تعني تفكيك هيئات إقليمية وتجمعات اقتصادية وإعادة دمجها في هيكلية عابرة للحدود تتخطى تلك التقسيمات الجغرافية والسياسية للدول.
الأمور غير واضحة في إطاراتها التنظيمية ما يؤدي إلى زيادة الضبابية بشأن المفهوم ودلالاته وتعريفاته ووظائفه ودوره. فالتعددية كما تتمظهر في استعمالاتها الحالية لاتزال فكرة قيد الدرس وتحتاج إلى وقت للنضوج. واقتراح الفكرة لفظيا لا يعني أن قنواتها الوظائفية تبلورت وتشكلت وأصبحت جاهزة للاستخدام.
الفكرة جيدة في مضمونها وأبعادها المستقبلية لأنها عمليا جاءت للرد على أزمة دولية ناجمة عن تشكل فراغات تحتاج إلى قوى قادرة على احتواء ارتداداتها. فانهيار منظومة «الحرب الباردة» وفشل أميركا في قيادة العالم وضعف الاتحاد الأوروبي في تشكيل بديل يعول عليه أسست رغبة دولية تطمح لتكوين هيئة عليا تمتلك صلاحيات تعزز من قدرتها على التدخل في مناطق الأزمات وضبطها تحت سقف توازن المصالح والاحترام المتبادل.
فكرة «التعددية» جاءت ردا على حاجة وتطورت سياسيا حين أخذت الولايات المتحدة تتعامل مع روسيا الاتحادية بصفتها دولة فقيرة وضعيفة ورثت ترسانة نووية وصاروخية عن الاتحاد السوفياتي الذي لم يعد موجودا في خريطة الدول والجغرافيا. هذا جانب من الصورة. الجانب الثاني أن الصين اعترضت على الاختراقات الأمنية التي بدأت واشنطن بارتكابها في المجال الحيوي الذي يهدد موقعها الاستراتيجي في منطقة شرق آسيا وجنوبها.
كذلك الاتحاد الأوروبي اكتشف ثغرات في السياسة الأميركية ودورها العسكري في منطقة «الشرق الأوسط» ما ساهم في تعريض القارة إلى مخاطر أمنية وتوريطها في معارك جزئية أو وهمية (درع الصواريخ في بولندا وتشيخيا مثلا) أو حروب ثانوية (جورجيا) أو أزمات مفتعلة (العراق واحتلاله في 2003).
كل هذه التطورات وغيرها عززت الحاجة إلى بديل دولي يضمن من جهة ويضبط من جهة احتمال انفلات الأزمات الإقليمية من الرقابة أو الاحتواء. وجاء مصطلح «التعددية» بمثابة تعويض يرد على أزمة قيادة الولايات المتحدة وفشلها في تصدير نموذجها إلى أفغانستان والعراق وصولا إلى انكشافها النقدي في أزمة الأسهم (البورصة) العالمية.
ردة الفعل على خيبات واشنطن وطموحها الدولي لا تكفي لتأكيد دخول العالم طور «التعددية». فهذا الجانب السلبي يرسل إشارة إلى نمو قوى أخذت تفرض احترامها على منظومة العلاقات الدولية إلا أن المطلوب توضيح الجانب الإيجابي من المفهوم وكيف يمكن نقله من النظرية إلى الواقع، وما هي الإجراءات التنظيمية المطلوب ترتيبها لتوضيح وظائف المصطلح ودوره وموقعه في إطار هيئات دولية (الأمم المتحدة مثلا) لاتزال قائمة وتصدر قرارات بشأن القضايا والأزمات.
الانتقال من ردة الفعل إلى الفعل يحتاج إلى فترة زمنية حتى يستقر مصطلح «التعددية» على تعريف يؤسس مفهوميا لمرحلة جديدة في منظومة العلاقات الدولية. الحقبة آتية لا محال ويبقى السؤال يتراوح بين كيف ومتى.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2775 - الأحد 11 أبريل 2010م الموافق 26 ربيع الثاني 1431هـ