توقيع روسيا الاتحادية والولايات المتحدة معاهدة «ستارت 2» في براغ طرح فرضية دخول العالم في طور نظام دولي جديد يعتمد التعددية بعد انتهاء عصر الثنائية والقطبية الواحدة. والفرضية ليست وهمية لأنها تأسست على مجموعة معطيات لم يعد بالإمكان تجاهلها بعد حصول متغيرات في منظومة العلاقات الدولية في العقد الأول من القرن الجاري.
التعددية تحتاج إلى فترة زمنية حتى تتبلور معالمها وألوانها وتشكيلاتها. فالتطور عادة لا يأتي بسرعة ولكنه حين يبدأ خطوته الأولى يأخذ بتوليد طاقة دينامية تدفعه بقوة نحو التقدم إلى الأمام. وما حصل في براغ قبل ثلاثة أيام يعتبر سياسيا دفعة أولى في سياق الدخول في طور يرجح أن يفرض شروطه الموضوعية خلال العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.
أميركا في عهد باراك أوباما بدأت بمراجعة الملفات، وهي تدرك أنها لا تستطيع أن تستمر في استراتيجية التهور في اعتبار أن كلفة تلك السياسة باتت أثقل من قدرة الولايات المتحدة على تحمل أتعابها وسلبياتها. وبحسب نظرية اسحق نيوتن التي تقول إن الفعل يتعادل مع ردة الفعل تبدو إدارة أوباما في وضع لا تحسد عليه بعد أن واجهت ارتدادات موروثة عن الرئيس السابق.
موسكو أيضا دخلت منذ فترة في مرحلة أخذت خلالها تعيد قراءة الكثير من الملفات التي تهالكت بفعل تقادمها الزمني وبدأت سياسة المصالحة مع عالم يشهد سلسلة تعارضات بين عوامل التقارب وصعوبات التباعد. وهذه التعارضات ستلعب دورها لاحقا في إعادة تشكيل خريطة التوازن في منظومة العلاقات الدولية. والمنظومة التي لم تتمظهر في هيئتها النهائية تحتاج إلى مراكز حتى تتأسس وفق معادلة جديدة لا تتطابق مع حالات تعارف عليها العالم في مراحل سابقة.
لابد من ظهور مفاهيم مخالفة عن حقبات الماضي حتى تتجانس هيئة العالم مع المتحولات. ومنظومة المفاهيم المتوقع ظهورها في المستقبل لا يمكن أن تكون متشابهة مع تلك التقسيمات التي استخدمت لترسيم الدول وتصنيفها تحت هذه اللائحة أو تلك.
هناك مصطلحات جديدة لابد أن تتشكل قريبا لتعريف الدول وتصنيفها وترتيبها. وهذه المصطلحات لابد أن تكون واقعية ومنصفة حتى تتوافق المفاهيم المبتكرة مع المنظومة التعددية.
التعددية هي الطرف الضد للثنائية والأحادية، ولذلك لا يمكن لها أن تتجانس مع تقسيمات ابتكرت للتعريف القديم بالدول. في السابق تم تشطير العالم إلى «دول الشمال» الصناعية المتقدمة و«دول الجنوب» الزراعية المتخلفة، أو فرزها إلى «دول الشرق» و«دول الغرب» أو «دول متطورة» و«دول نامية».
هذه الثنائيات لم تعد صالحة كلها للإجابة عن متغيرات أخذت تكسر هذه الصنمية الايديولوجية وتلك التعريفات التي استحدثت في حقبات سابقة من نوع «المعسكر الشرقي» و«المعسكر الغربي» ودول «عدم الانحياز» و«دول تابعة» ودول «متبوعة» أو دول «العالم الأول» ودول «العالم الثاني» ودول «العالم الثالث» أو «الرابع».
التوصيفات المذكورة أو ما شابهها لم تعد كافية للإشارة إلى هذه الجهة أو تلك بسبب نمو متغيرات أخذت تعدل زوايا الصورة وهيئة العالم الجديد. التقدم الصناعي - التكنولوجي لم يعد بالإمكان حصره في دول الشمال (العالم الأول) بعد أن أخذ بعض دول الجنوب يتقدم ويدخل سوق المنافسة. والتطور الاقتصادي - العلمي لم يعد يقتصر على دول الغرب باعتبار أن الكثير من دول الشرق أخذت تتقدم في المضمار المذكور ولم يعد أمامها سوى مسافة زمنية لتلتحق في إطار واحد مع أوروبا والولايات المتحدة.
هذا لا يعني أن العالم أصبح على درجة واحدة من التقدم، أو أن الدول أصبحت على سوية واحدة من النمو. فهذه الحال المثالية ليست موجودة في الواقع وتحتاج إلى فترة عقود من الزمن حتى تتقلص الفروقات وتتعدل الموازين وتتراجع نسبة النمو المتفاوت بين مناطق الكرة الأرضية. ولكن الاستمرار في اتباع تلك التقسيمات والتوصيفات والتصنيفات والتعريفات التي كانت متداولة سابقا لم يعد مجديا للفرز والمقارنة.
العالم بحاجة إلى مفاهيم ومفردات ومصطلحات جديدة تكون قادرة على إعادة تعريفه بما يتناسب مع درجة المتغيرات حتى تصبح الكلمات متكيفة مع صورة التعدد والتنوع وهيئة الدول المتشابكة جغرافيا أو المتداخلة اقتصاديا.
مفردة «التعددية» بحاجة إلى تعريف مفهومي يعطي ذلك التوصيف الدقيق للمعنى المقصود منها. فهل التعددية تعني فعليا تجاوز تلك التشطيرات العمودية والأفقية التي توافق علماء الاجتماع والاقتصاد والتاريخ على استخدامها للإشارة إلى هذا المكان أو تلك الجهة. وإذا كانت «التعددية» هي بداية طور جديد في منظومة العلاقات الدولية، فإن المفردة وحدها ليست كافية لتوضيح هيئة الصورة التي أخذت تتشكل من الشرق والغرب والشمال والجنوب. وإذا كانت التعددية هي التعريف المتوافق عليه لتوصيف الحقبة الجديدة فإن المصطلح بات بحاجة إلى أخوات «إن» و«كان» حتى لا يدخل العالم في سوق مضطرب من المفاهيم تعطل عليه الاستفادة سياسيا من أخطاء الماضي وما لحق بالشعوب المستضعفة من ظلم إنساني وأخلاقي.
الحقبة الجديدة التي لابد أن يدخلها العالم عاجلا أم آجلا تحتاج إلى ابتكار مفاهيم مناسبة للهيئة المقبلة. والمقاربة تطرح بدورها مجموعة أسئلة فرضية عن شروط تبلور منظومة العلاقات الدولية وكيف ستكون عليه توازنات المعادلة في سياق نمو «التعددية».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2774 - السبت 10 أبريل 2010م الموافق 25 ربيع الثاني 1431هـ