بدت حرب غزة نزاعا لا مناص منه. كان واقع ما قبل الحرب غير مقبول لأي من الأطراف ذات العلاقة. لم تكن حماس مقتنعة بوقف إطلاق النار الذي أبقى قطاع غزة بالغ الصغر معزولا عن العالم. تحدت معاناة الفلسطينيين داخل غزة المحاصرة ادعاءات حماس بالفاعلية كحكومة منتخبة قادرة على تحقيق احتياجات شعبها. كذلك لم تسمح شروط وقف إطلاق النار لحماس أن تسعى لتحقيق برنامج المقاومة المرنة التي تعتبر مركزية جدا لهوية الحركة. شكّلت الحرب أسلوب حماس للخروج من هذا الشرك.
لم تشعر «إسرائيل»، من ناحية أخرى بأنها مرتاحة من اختباء عدوتها اللدودة وراء وقف إطلاق نار هش بينما تقوم ببناء ترسانة من الصواريخ البدائية، ولكن المزعجة. لم يكن قلق “إسرائيل” نابعا من هذه الصواريخ التي بالكاد تعتبر خطيرة والتي تطلق من غزة على بلدات النقب. كان قلق “إسرائيل” ناتج بصورة أوسع عن المعاني الضمنية طويلة الأمد في حال استمر هذا الوضع. كانت تلك هي الحالة بالذات عندما لم تثبت عملية تشديد الخناق على قطاع غزة الذي تحكمه حماس إنها فاعلة في تلطيف موقف حماس. لذا اضطرت «إسرائيل»، مثل حماس، أن تلجأ للحرب للهرب من شرك وقف إطلاق النار الذي استمر ستة شهور والذي روضتهم مصر لقبوله.
تقف مصر محشورة بين «إسرائيل» وحماس. لا يوجد من وجهة نظر مصر أية معادلة دائمة للمصالحة بين حماس اليوم و»إسرائيل». وهناك فقط ترتيبات انتقالية مثل هدنة تدوم ستة أشهر يمكن التوصل إليها تحت هذه الظروف المقيدة. استراتيجية مصر نحو الوضع في غزة هي استراتيجية متجزئة وطويلة الأمد، بينما يسارع الطرفان المباشران للصراع نحو التوصل إلى نتائج فورية.
لدى مصر مصادر قلق متعددة فيما يتعلق بالوضع في غزة. اهتمامها الرئيس هو منع الفصل تحت الأمر الواقع بين الضفة الغربية وقطاع غزة من التطور ليصبح تقسيما ثانيا لفلسطين. كذلك تحرص مصر على عدم تجويع شعب غزة، فمعاناة هذا الشعب تضع مصر تحت ضغوط محلّية وإقليمية لا تحتمل. قد يخترق الغزيون الحدود المصرية، أو يعاملوا مصر على أنها مثيرة للمشاكل، وبالتالي كهدف شرعي للانتقام.
وتؤمن مصر بأن حماس قوة حقيقية أصيلة في فلسطين لا يمكن لا تجاهلها ولا القضاء عليها. إلا أن مصر تؤمن كذلك بأن حماس يجب أن يتم احتواءها بشكل تدريجي كجزء لا يتجزأ من القوة المتطرفة التي تزعزع استقرار الشرق الأوسط. وفي الوقت الذي تتشارك فيه «إسرائيل» مع مصر هدف احتواء الراديكالية والتطرف، إلا أنها تظهر عدم اكتراث تجاه توجه مصر التدريجي. وتشهد حرب غزة الأخيرة على الخلافات المصرية الإسرائيلية في هذا المجال.
تبرز ورطة مصر من حقيقة أنها ليست سعيدة بحماس أو قادرة على الضغط عليها ما وراء حدود معينة. كانت سياسة مصر بعيدة الأمد قد سعت لتوجيه حماس نحو هبوط آمن في مجال التحديث والبراغماتية، إلا أن حرب غزة أفشلت هذه المحاولة. وفي الوقت الذي يمكن فيه لهذه الحرب أن تساعد على تسريع اعتدال حماس، إلا أن الثمن الذي تدفعه مصر كبير ومحفوف بالمخاطر، وكان يمكن تجنبه لولا سياسات المواجهة التي مارستها كل من حماس و»إسرائيل».
ويشكّل النزاع في غزة حربا أخرى غير حاسمة في الشرق الأوسط. وهي غير حاسمة فيما يتعلّق بطبيعة العلاقات بين الفلسطينيين و»إسرائيل»، وكذلك فيما يتعلّق بالعلاقات بين مصر و»إسرائيل”. ما يدعو للسخرية في حرب غزة هو أن الثمن الإنسانيّ لا يؤهّله لأن يكون نقطة تحوّل في سياسة الشرق الأوسط. وتخلق الأسئلة العديدة التي تُرِكَت دون إجابة مع انتهاء الحرب الكثير من الشكوك وعدم الوضوح. وضمن المنطق نفسه، لا تبدو حرب غزّة نقطة تحوّل في العلاقات بين مصر و»إسرائيل»، والتي ستسودها على الأرجح غيوم من الشكوك الإقليمية.
يتوجب مراقبة ثلاثة مصادر لمثل هذه الشكوك «إسرائيل»، واستراتيجية حماس ما بعد الحرب، والفاصل الإقليمي بين المتشددين والمعتدلين في الشرق الأوسط. وسيكون توجه مصر نحو «إسرائيل» على الأغلب محكوما بسياسة عامة تهدف إلى إحداث توازن بين القوى المتصارعة في المنطقة.
وتنقل المفاوضات المطولة المتعلقة بتعزيز وقف إطلاق النار الهش في غزة شعورا بكيف يمكن للعلاقات بين مصر و»إسرائيل» وحماس أن تبدو في المستقبل. سوف تسير مصر على حبل مربوط بين حماس و»إسرائيل» ومتطرفي الشرق الأوسط لشهور عديدة قادمة. ورغم أن مصر تمكنت من إفشال المحاولات المتطرفة لوضعها في الزاوية خلال نزاع غزة، إلا أنها مهتمة كذلك في إصلاح الضرر الذي أصاب صورتها في أوساط أجزاء من الجمهور العربي من قبل وسائل إعلام المتطرفين. ومازالت مصر بحاجة للحصول على تعاون حماس حتى تتمكن من متابعة سياسة تسوية فلسطينية.
تجديد العملية السلمية هو طريق الخروج الآمن من المستنقع الحالي في الشرق الأوسط. يكمن مفتاح العملية السلمية في أيدي التحالف الإسرائيلي القادم في «إسرائيل». من المستبعد أن تساعد النتائج غير الحاسمة للانتخابات الإسرائيلية الأخيرة. ومن المحتمل أن يكون توجه مصر نحو «إسرائيل» في الشهور القادمة محسوبا ومقاسا. فالشكوك العميقة فيما يتعلق بقضية السلام والتي عمّقتها حرب غزة بين الجمهور العربي تجعل من توجه حذر كهذا أمرا لا مناص منه.
زميل باحث كبير في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية في القاهرة، وأستاذ زائر في العلوم السياسية بالجامعة الأميركية في القاهرة، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 2366 - الخميس 26 فبراير 2009م الموافق 01 ربيع الاول 1430هـ