بمناسبة يوم المرأة العالمي قدم الناقد والأكاديمي علوي الهاشمي ورقة نقدية في المؤتمر الذي عقده اتحاد الكتاب التونسيين بالتنسيق مع منظمة المرأة العربية بعنوان «صورة المرأة العربية في كتاباتها»، وقد احتوى المؤتمر على مجموعة من الجلسات النقدية في شكل محاضرات علمية وشهادات إبداعية، فبالإضافة إلى محاضرة الهاشمي حول صورة المرأة في كتاباتها قدمت الروائية فوزية رشيد شهادة إبداعية حول تجربتها الروائية.
افتُتحت الندوة بكلمة لرئيسة اتحاد الكتاب التونسيين الشاعرة جميلة الماجري وكلمة لوزير الثقافة والمحافظة على التراث عبدالرؤوف الباسطي، واستمرت ثلاثة أيام بجلسات صباحية ومسائية تخللتها مجموعة من الفعاليات الفنية واللقاءات الثقافية.
طرحت الندوة عدة تساؤلات وتداول المشاركون في بحوثهم ومداخلاتهم والشهادات الإبداعية للأديبات الإجابة على أسئلة الندوة والتي من أهمها: هل صورة المرأة العربية في كتاباتها صورة نمطية واحدة تتردد أصداؤها وتتمايز تلاوينها في المدونة الإبداعية العربية أم أنها «بانو راما» من صور مقدودة من خامات شتى وأدوات تختلف؟ وكيف كانت هذه الصور حيزا دالا معبرا عن حضورها في الحياة الاجتماعية والثقافية والأدبية والسياسية؟
وهل تندرج بعض هذه المتون الإبداعية في خانة الدفاع عن الأنا والرغبة في إثبات الهوية وترسيخ الندية مع الرجل بكل مفردات الحمل التاريخي الذي ينسب إليه؟ أم هي في نهاية المطاف تنويع عن سعي الإنسان إلى الانعتاق من كل طوق ومعانقة كل توق؟
وما هي الصورة التي تروم المرأة العربية ذاتا مبدعة وكائنا مفكرا رسمها عن نفسها من خلال كتاباتها، هل هي صورة من الواقع أم أنها تنتمي إلى الخيال والمثال المرجو أم أنها في النهاية مزيج بين العالمين؟
حضر الندوة أربعون مشاركا من مختلف أنحاء الوطن العربي، فمن المغرب الأديبة مليكة العاصمي والناقد حميد الحمداني، ومن مصر الشاعر أحمد الشهاوي والناقد أحمد درويش والشاعرة إيمان بكري والأديبة هالة فهمي، ومن الجماهيرية العظمى الأديبة لطفية القبايلي والناقد عبدالحكيم المالكي، ومن الإمارات الشاعرة ميسون صقر القاسمي والشاعرة صالحة غابش، ومن البحرين الأديب علوي الهاشمي والروائية فوزية رشيد ومن الجزائر الناقدة شادية شقروش والناقد ناصر معماش، ومن موريتانيا الإعلامية مغلاها بنت الليلي، ومن السودان الشاعرة روضة الحاج ومن سورية الشاعرة ابتسام صمادي والناقد غسان غنيم ومن السعودية الناقد علي القرشي ومن الأردن الروائية سميحة خريس ومن اليمن الناقدة ابتسام المتوكل ومن العراق الشاعرة ساجدة الموسوي، بالإضافة طبعا للأدباء والمثقفين والكتاب التونسيين.
وفي ورقته خلال الندوة قدم الهاشمي رؤية نقدية حول صورة المرأة من خلال إبداعها متخذا من ديوان اشتهاءات لإيمان أسيري مدخلا لتجلية هذه الصورة حيث أشار إلى أن المرأة لم تستطع أن تتخلص من جنسها عند العملية الإبداعية.
وفي البداية توقف الهاشمي مع العنوان «اشتهاءات» وما له من دلالة مهمة في دخول أي نص شعري فهو عتبة النص، والثريا المضيئة لأنحائه، فالعنوان محرك للنص، والنص يدور على منوال هذا الفعل المشتق من اسم «اشتهاءات» وهو جمع مؤنث سالم لكنه في النص نادرا ما يرد اسما، بل دائما يرد عن طريق الفعل الذي تبدأ به الجملة الشعرية، والتي هي ضمن مكونين: الأول سردي يقوم النص عليه باعتباره محركا لعملية الاستطراد بما يحرك الذاكرة، والتي عندما تتحرك وتورد ما لديها من أحداث مسرودة، محكية، مقصوصة، يأتي البوح الشعري ليفجر هذا الواقع السردي، وهذه هي الآلية التي ستحرك «اشتهاءات» الشاعرة.
وتساءل الهاشمي ما هذا النص؟ وعلام ينهض في الأساس؟ إنه ينبني على إعادة الإنتاج لقصة «ليلى وقيس» التاريخية المعروفة, «صحيح أننا نقرأ بين الفينة والأخرى اسم قيس وليلى، ولكننا لا نلحظ ثقلهما التاريخي في النص، بل هما يذوبان ذوبانا تاما إلى حد أن قارئ النص كله لا ينتبه إلى القصة التاريخية، بل سيجدها تتخايل من بعيد كالظل في النص، ولكن لابد من الانتباه إليها بعد إعادة إنتاج القصة، واتخاذ ذلك النتاج إطارا للكشف عن دقائق العلاقة الحميمة بين الرجل والمرأة»، «فلو انتبهنا إلى ص 8 سنجد قول النص (مثل فتى تاه عما يعرفه، عرف كيف يأتيها وكثيرا ما كتب عنها، لكنه صار ينسى، يسجل موعدها، وينشغل عن حب ليلى في موعد ودونه، أشتهيك طفلا مدججا بالهوى يصيبني منك ما يصيب، ولا أهوى)».
وأضاف الهاشمي نص (الاشتهاءات) يطرح عددا من إشكالات العلاقة بين الرجل والمرأة، ولعل من أبرز هذه الإشكالات: مَنْ مِنْهما يمثل مركز هذه العلاقة الحميمة؟ الرجل أم المرأة؟ فلو انتبهنا إلى ص 10 فالنص يقول (كان جريئا ولم يفهم سألته مرارا عن الرواية القديمة استدعى دمه لها فكادت أن تصدقه لكنها رأت كيف يفيض حبا بانشغالات غير ليلى) وهنا ينطرح إشكال مركزية المرأة في علاقتها بالرجل، في حين أن الرجل يبتعد قليلا أو كثيرا عن هذه المركزية في انشغالاته بغير ليلى».
وتابع أن نص «الاشتهاءات» ضفيرة من السرد القصصي والبوح الشعري يتطور عن طريق آلية الكشف عن أدق الأسرار «أشتهي أن أراك كي أفتح الجنائن السرية وأدخل إليك من عوالم تهيأت لك سريعا» هكذا يجترح النص نقلة واسعة ليذكر خصوصيات وشعور المرأة الداخلي بأناها، مما لا يعرفه الآخرون، خاصة الرجال عن المرأة، وهذه واحدة من الإشكالات المطروحة في إظهار خصوصية المرأة، وانشغالها بأناها لكي تكون مركزا قويا لهذه العلاقة ولها أن تعتز بذلك على الأقل من وجهة نظرها، إذ يقول النص «مثل النساء اللاتي يحببن أول مرة لم تغسل ليلى، جسدها كان طيبا حتى النقاء، فراشات عبقت جسدها عفت عن الماء بمائه، هكذا تهواه، ولا يعرف لأشجاره ثـمرا، عنه لا تعرف، ولا تقرب تغافل في السؤال عنه، وتنظر لمائه الذي ترك ولدمه الذي اتبع» ذلك كان السرد، أما البوح الشعري فهو «أشتهي رائحته تعلق في ثيابي» دائما البوح يبدأ بفعل الاشتهاء «أنا والثياب نقيم حفلة عرس ونعلق ذرة ذرة من الرائحة على جدار القلب».
وأكد الهاشمي هكذا بدأت تتبلور لدي خطّة لدخول النص تتمثل في عنوان أسميه «بنية التحولات وتوالدها الدلالي والصوري» في نص «اشتهاءات» عبر استقراء الصور الجميلة لبنية التحولات وتوالدها الدلالي والمرأة تهرب من الجسد إلى الكتابة لأن الجسد لديها هي حالة تثمر شعرا وحياة.
ولنقرأ معا من النص «أشتهي مطرا يداهمني كي أرفع طرف ثوبي، ويراني، ما أجمل ثوبي محمّلا، ببرتقال ندي يلمس جسدي، أظنني إن داهمني مطر سيرتوي البرتقال وأعبق بالأريج وحينها سيراني» هذه من الصور المتميزة في النص والتي تشير إلى التحولات، بين الجسد والكتابة ثم بين الطبيعة والمرأة في إطار البرتقال الذي يزين ما تلبسه ثم يتحول هذا البرتقال إلى اكتشاف بالنسبة للرجل.
وهنا نتبين أن التحول في الحالات الداخلية خفي خشية اللقاء، بينها بين الخارج وتساوي هذه الحالات بين الجسد أو الحزن والكتابة للرجل، والتي تبدو وكأنها كبسولة زمنية يحقق فيها غروره وحلمه بالخلود.
«وهكذا وضعت اشتهاءاتها في الحقيبة وأودعتها ببابه كالذي أصابها ما لا تعرف فارتدى دمه بسرعة والتقط الهاتف العزيز وترك لها الحقيبة، اشتهته يرشقها بقصائد فاتحة لمجرى الهوى قصائد تنضو عنها ثوبها ليلسع بنارها، تطوقه لعله يدرك أنها دمه»، حين تتزامن اللحظتان لحظة الكتابة ولحظة الجسد أو الحالتان الداخلية والخارجية أو تتواجهان وربما تتصارعان، حينها تفزع الذات الذكورية الشاعرة نحو الجسد ليهيئ منه صفحة بيضاء صافية تصلح للكتابة، فالجسد هو المحرك الأعظم للكتابة هذا ما يدركه الرجل، ويؤمن به في لحظة التجاسد «اشتهاها صافية تدنو بلا خجل يطوقها في غفلة يهيج في غفلة، يغفو».
«أما المرأة - ولأن الجسد جسدها وهو صفحة الكتابة، ونزفها هو المداد - فإن رؤيتها تختلف ورأيها يتباين لأنها تذهب أبعد من الجسد في اشتهاءاتها»، «اشتهت صدقه نساء كثيرات يطللن من ثوبه اقتربت منه خلعت الثوب عنه وجدته يفترش القراطيس، ولا يعرفها»، المرأة هنا صورة رمزية للحياة واشتهاءاتها، والرجل صورة مباشرة لحب الأنا، الجسد نقطة التقاطع بينهما كل منهما في اتجاه مثل سهمين متعاكسين، حين يلتقيان للحظة «اشتهي افتتانك بي أبعد القلق عني ثـمة مطر قادم وثمة زهرة منسية في الحديقة» هذه عودة الرجل أو العاشق الضال إلى حضن أنثاه حين لا يبقى له سواها، ولا يبقى لها سواه، «اشتهته، هذا العاشق الذي ما كل من ترتيب الأسرة غادرته النساء لما رأين النهار تسرب خلسة إلى شعره، لم تعرف ما تركن لها فضة شعره، وذهب العشق» لذلك كان الاسم «ليلى اسما للبنية» لأن هذا الاسم رمز تاريخي لتوحد العاشق بمعشوقه منذ اللحظة الأولى فالمرأة هي المرأة واحدة والرجال كثيرون.
إن الشواهد شعرية كثيرة، ودالة على حالة التوحد بين العاشقين عبر عملية التبادل في الدور، أو الجلوس في كرسي الآخر، هكذا يكون الكشف، والانكشاف بالنسبة إلى سيرورة هذا النص «اشتهت عذوبته لما قال أحبك بطريقتي، عشقت فتاها، حملت إليه الحلوى، ونبتة الهوى» هكذا يبدو الخروج من الصمت عبر تبادل الأدوار، ويتحول الرجل إلى راوية، فيعذب الحب، وحواء تسمع ما يقول «تشتهي انعتاق القفل في صمته، قناديل الحديث، تضيء عتمة البحر، وتطيب الهوى، في مبسمه» ومن الصور العميقة لحالة التبادل والتوحد في العشق التي تتم من خلالها بنية التحولات بين العاشق والمعشوق قول الشاعرة «اشتهت فراشاته التي يرسلها لتشرب الضوء عندها تتعجل القيام إليه عندها تتناثر الفراشات يهمس أحبك» المرأة هنا تدرك بقلبها منذ اللحظة الأولى للحب أن فيها يختزل عمرها كله وأن بداية الطريق هي نهايته وأن الربيع والخريف، ما هما إلا فصل واحد، له طرفان كالقوس والوتر المشدود بين طرفي «أشتهي رغبتي فمن غيره يستحقها».
العدد 2771 - الأربعاء 07 أبريل 2010م الموافق 22 ربيع الثاني 1431هـ