اختار الباحث صابر الحباشة أن يستعرض كتاب «الحجاج في القرآن من خلال أهمّ خصائصه الأسلوبية» وذلك كلمسة وفاء للأكاديمي التونسي الراحل عبدالله صولة، وذلك في المداخلة التي قدمها الحباشة في ندوة «درس الحجاج في الثقافة العربية عبدالله صولة نموذجا» بمشاركة سامي الرحموني، وتوفيق الدعجي، وعلي سلمان، والتي أدارها الأكاديمي محمد النويري في مركز كانو الثقافي بحضور مجموعة من المثقفين والمهتمين ورواد المركز، وقد عنون الحباشة مداخلته بـ «عبدالله صولة يستنبط بلاغة الحجاجي في النص القرآني».
بدأ الحباشة حديثه بمقولة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: «إنّ الغرض الأكبر للقرآن هو إصلاح الأمّة بأسرها، فإصلاح كفّارها بدعوته إلى الإيمان (...) وإصلاح المؤمنين بتقويم أخلاقهم وتثبيتهم على هداهم وإرشادهم إلى طرق النجاح وتزكية نفوسهم ولذلك كانت أغراضه مرتبطة بأحوال المجتمع في مدّة الدعوة». تفسير التحرير والتنوير، ج1، ص81 (أورده عبدالله صولة، الحجاج في القرآن، من خلال أهم مظاهره الأسلوبية، ص 44)
• مقدمة
نود أن نضع خطة تقديم هذا السفر المهم، على النحو التالي:
1 - تعريف موجز بالكتاب وبصاحبه.
2 - عرض أهم مقولاته وأمّهات أفكاره.
3 - تعليق على منهجه وخلاصاته واستنتاجاته.
ولا يُغني هذا التقديم بأيّ حال من الأحوال عن مراجعة الكتاب وقراءته، وخصوصا أنه يهتم بالبلاغة القرآنية فيبين الإعجاز (مجدّدا) دون أن يقع في ما قد يقع فيه بعض المتحمسين من لهج بأقوال تجافي الصواب وتشتطّ بعيدا عن التأويل المسوَّغ.
«الحجاج في القرآن من خلال أهمّ خصائصه الأسلوبية» كتاب هو في الأصل رسالة دكتوراه دولة، نوقشت في كلية الآداب منوبة/ تونس، سنة 1997 ونال صاحبها رتبة الدكتوراه بملاحظة الشرف الأولى، وأشرف على الرسالة حمادي صمود وناقشتها لجنة متكونة من أساتذة بارزين في الجامعة التونسية (عبد القادر المهيري وعبد السلام المسدي رئيسا] ومحمد صلاح الدين الشريف وعبدالمجيد الشرفي والأستاذ المشرف).
وقد طُبع الكتاب في طبعة أولى في كلية الآداب منوبة/ تونس، سنة 2002، في جزءين، ثم أعيد طبعه طبعة ثانية، في بيروت سنة 2006 في طبعة مشتركة بين دار الفارابي، بيروت ومكتبة المعرفة، تونس وكلية الآداب منوبة، تونس، في مجلد واحد، يبلغ عدد صفحاته 647 صفحة.
المؤلف:
الأكاديمي عبدالله صولة، رحمه الله، من الباحثين الدؤوبين في اللسانيات وعلوم الدلالة والأسلوبية والنقد والأدب، في الجامعة التونسية.
يعرفه زملاؤه وطلبته بحذقه وحصافة رأيه وإخلاصه في التعاون واتصافه بالنزاهة العلمية واللين في غير ضعف... وقد تشرفت بإهداء كتابيّ «لسانيات الخطاب» و»الأبعاد التداولية في شروح التلخيص» لروحه وفاء لأياديه البيضاء عليّ...
ومهما يكن من أمر، فإنّ ما نشره عبدالله صولة لا يعدو أن يكون:
- الفكر الإصلاحي في عصر النهضة (كتيّب، بالاشتراك مع محمد القاضي)
- السيرة الذاتية (ترجمة لكتاب جورج ماي، بالاشتراك مع محمد القاضي)
- بعض الفصول حول الأسلوبية الذاتية أو النشوئية (في مجلة فصول القاهرية، عدد خاص بالأسلوبية، 1984) وحول الحجاج: أطره ومنطلقاته وتقنياته عند برلمان (ضمن كتاب «أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية، من أرسطو إلى اليوم، إشراف حمادي صمود، 1998) وحول العدول في الدراسات الأسلوبية المعاصرة (مجلة دراسات لسانية سيميائية أدبية، 1987) وحول «الأيام لطه حسين نصا حجاجيا» (ضمن كتاب جماعي). بالإضافة إلى مقالات في الكتاب الجماعي الذي صدر بعد وفاته في الأردن بعنوان «الحِجاج مفهومه ومجالاته: دراسات نظرية وتطبيقية في البلاغة الجديدة» تنسيق حافظ إسماعيلي علوي.
كما اضطلع صولة بالإشراف على رسائل ماجستير ودكتوراه كثيرة، وقد نالني شرف مشاركته مقرّرا في مناقشة رسالتي في شهادة الدراسات المعمقة يوم 18 يناير/ كانون الثاني 2003...
وقد عمل، رحمه الله، إلى ذلك، عضوا في بعض لجان الانتداب للتعليم العالي والترقيات الجامعية واهتمّ بالدراسات العرفانية/ المعرفية والدلالية المعاصرة.
أ - المهاد النظري
ينطلق صولة من نظريات الحجاج الحديثة ليتخذها خلفية نظرية ينظر من خلالها إلى مبحث الحجاج في القرآن، وقد اعتبر في المدخل الذي وضعه للأطروحة أنّ الحجاج ضربان: «ضرب أنت فيه لا تبرح حدود المنطق فهو ضيّق المجال ومرادف للبرهنة والاستدلال؛ إذ هو يُعنى بتتبّع الجانب الاستدلالي في المحاجّة. وضرب هو واسع المجال لانعقاد الأمر فيه على دراسة مجمل التقنيات البيانية الباعثة على إذعان السامع أو القارئ»(ص8، * ملاحظة: نعتمد في الإحالة على صفحات الكتاب على الطبعة الثانية الصادرة سنة 2006).
ويعمد الباحث إلى تعريف الحجاج لغة واصطلاحا ويعود إلى المفسرين والأصوليين والمعجميين وإلى الباحثين الغربيين أيضا، مبرزا أنّ الحجاج يُعتبر قاسما مشتركا بين الجدل والخطابة. كما اهتمّ بالحجاج من حيث هو «حوار» وبوصفه مبحثا لغويّا قائما بذاته. وقدّم صولة جدولا (ص31) ترجمه عن بعض الباحثين الغربيين (بواسّينوAlain Boissinot) يقارن فيه بين الاستدلال البرهاني والحجاج والحمل على الإقناع.
والملاحظ أنّ صولة يقدّم أربعة مفاهيم للحجاج عند طوائف أربع أربع: نعت لطوائف، لذلك وردت مذكـّرة] من الباحثين الغربيين (1- تولمين، 2- برلمان وتيتيكاه، 3-أنسكمبر وديكرو، 4- ماير)، ثم يعلّق عليها قائلا: «مفاهيم الحجاج الأربعة هذه، على أهميتها بالنسبة إلى بحثنا، فيها ما من شأنه أن يثير مشاكل منهجية في مجال الدراسات الحجاجية عامّة، وفي دراسة القرآن دراسة حجاجية خاصّة» (ص39-40).
ومن بين المشاكل التي قصد إليها الباحث بهذه الإشارة ما بين مفاهيم الحجاج تلك من اختلافات جذرية، بين مضيّق له وموسّع، فرأى صولة أن يتخذ موقفا وسطا، يقول: «فالرأي عندنا أنه ما كلّ حجاج بفصل أو وصل. كما أنه ما كلّ قول بحجاج، وليست اللغة بكل وحداتها المعجمية ذات طاقة حجاجية في ذاتها. وفوق هذا وذاك فإنّ لطبيعة النص دورا أساسيا في إكساب لغته بعدا حجاجيا أو عدم إكسابها إياه» (ص40).
ب- القرآن خطاب
يرى صولة أنّ القرآن خطاب، «وكونه خطابا يقتضي أنه إقناع وتأثير»(ص41). وهو إلى ذلك «مسرح عليه تتحاور الذوات وتتجادل ويُحاجّ بعضها بعضا»(ص42) ويرمي الباحث لا إلى بيان «حجاجية» القرآن من خلال التفاسير، بل إلى «توظيف فهم المفسرين لبعض معاني القرآن إنّ هؤلاء المفسرين يراعون كثيرا قواعد اللغة والإعراب والبلاغة التي من شأنها أن تكشف عن المعاني القرآنية بطريقة «موضوعية». وهم إلى ذلك يأخذون في الاعتبار كثيرا مقامات القول القرآنيّ يفسّرونه بها ويتأوّلونه في ضوئها»(ص48).
ج - الخصائص الأسلوبية
المقصود بالخصائص الأسلوبية هي «ظواهره اللغوية وقد تحوّلت بحكم تردّدها وتكرارها وعودتها فيه إلى أسلوب في القول يميّزه» (ص48). وللقرآن خصائص أسلوبية في مستوى المعجم والتركيب والصورة، ويرى الباحث «أنّ أسلوب القرآن ذو بعد حجاجيّ وأنّ الحجاج فيه ناشئ عن طريقة له في القول مخصوصة فضلا عن نشوئه من مضامين هذا القول» ويضيف أنّ «الحجاج في القرآن لا يمكن أن يكون إلا حجاجا خاصّا به دون غيره من سائر الخطابات»(ص53).
د - أهداف الأطروحة
اعتنى عبدالله صولة في أطروحته بمحاولة تحقيق ثلاثة أهداف:
أولها: الكشف عن حجاجية الكلام القرآنيّ، في مستوياته الثلاثة:
1 - مستوى المعجم، أي مستوى المفرد من القول.
2 - مستوى التركيب أو المركّب منه
3 - مستوى الصورة، وهي تمثل جانب المجاز فيه.
فهو يريد البرهنة على الحجاج في القرآن إفرادا وتركيبا، حقيقة ومجازا.
وأخضع هذه الظواهر المعجمية والتركيبية إلى مبدأ «العدول»:
- كمّيّا: بالزيادة والنقصان
- نوعيّا: على الصعيدين الجدوليّ والنسقيّ
أمّا الصورة فقد درسها «من جهة المادة التي تتشكل منها، ومن جهة الطريقة الأسلوبية المتوخاة في صوغها»(ص55).
ثانيها: هدم الثنائية الضدّية التي قامت عليه البلاغة في الغرب (بلاغة الحِجَاج/ بلاغة الأسلوب).
ثالثها: الإسهام في الكشف عن جانب من جوانب قدرة القرآن على التأثير في متلقيه، تأثيرا حجاجيا ومن ثمّ عقليا، بالإضافة إلى ما له من قدرة على التأثير العاطفيّ في قلوب أولئك المتلقين.
هـ - النحو والتداولية
يقول صولة «إنّ نظرية النظم في القديم تلحّ بلغة نظريات تحليل الخطاب المعاصرة على ما يحصل في الجملة أو في النصّ من ظاهرة الانسجام (cohérence) ذات الأصول النحوية دون شك، أكثر بكثير من إلحاحها على ظاهرة الإفادة (pertinence) فيه، التي هي ذات منطلقات وأصول تداولية» (ص59)
ويقرر، قائلا: «إننا بدراسة اللغة القرآنية حجاجيا نكون من ناحية أولى في صميم تداولية الخطاب أي في مجال بلاغة التأثير التي وقفوها أي العرب] على دراسة الشعر، ونكون من ناحية ثانية خارج مجال «بلاغة النظم» التي جعلوها لدرس القرآن»(ص59)
3 - تعليق على منهج الكتاب واستنتاجاته وخلاصاته
يلاحظ أنّ هذه الأطروحة عمل قد بذل فيه صاحبه جهدا لا ينكر في التماس الدقة الموضوعية والمنهجية الأكاديمية، حتى أنّ بعض مناقشيه - عند عرض الرسالة على لجنة المناقشة - قد لاحظ سمة المدرسية في هذه الأطروحة، وهي لعمْري خصلة بدأنا نفقدها في كثير من الرسائل الجامعية...
وتبدو شخصية صولة واضحة شفّافة عبر العمل، من حيث الوضوح الشفاف والمنهج العقلانيّ الديكارتيّ، وهو ما يجعلك لا تقف على مواضع نابية أو قلقة لا في مستوى المضمون ولا في مستوى التعبير.
غير أنّ بعض الملاحظات المنهجية التي لا يخلو منها عمل بشري، قد لفتت انتباه بعض أعضاء لجنة المناقشة، ومنها:
1 - ترجمة بعض المصطلحات:
أ- المفهوم، يجعله الباحث مقابلا لكلّ من (concept) و(notion) و(sous-entendu)، وهذا تحميل للفظة نفسها (مفهوم) أكثر من دلالة اصطلاحية، ضمن العمل نفسه، وكان يحسن بالباحث أن يتجنب هذا الاشتراك، عبر توليد مصطلح بديل.
ب- التوجيه، يجعله صولة، كما لاحظ هو نفسه، (ص261، في الهامش) ترجمة لمصطلحين (modalisation) و(modalité) فضلا عن كونه قد جعله من قبل مقابلا لمصطلح (orientation).
طبعا لا يعني ذلك أنّ الباحث يغفل عن هذه الأمور، ولكن لعلّه يقف ضمنيا موقف هشام جعيط الذي صرّح بأنّ اللغة العربية المعاصرة فقيرة في مستوى المصطلحات والألفاظ الفنية، وهذا أمر لا يُستغرب، إذ ركن أهل الضاد إلى استهلاك العلوم، وعلوم اللغة من العلوم التي شهدت في القرن العشرين قفزات عملاقة، فلا غرابة أن نشهد بعض الحرج الاصطلاحيّ ينتاب الباحثين، لفقر العربية المعاصرة في التعبير عن الجهاز الاصطلاحيّ الحديث، على الرغم من المحاولات المثابرة لسدّ الفجوة، في اللسانيات نذكر محاولات (الطيب البكوش، عبدالسلام المسديّ، عبدالقادر فاسي الفهري، محمد كمال بشر، بسام بركة، ... ).
2 - لا تفوتنا الإشارة إلى طرافة تناول الأطروحة وعمقها وغزارة أمثلتها وتطبيقاتها، فضلا عن ثراء الجانب النظريّ وامتلاك الباحث ناصية القول وغُزره في اللسانين العربيّ والفرنسيّ (فضلا عن قراءاته المتعمقة كذلك باللسان الإنجليزيّ)...
3 - من الاستنتاجات الطريفة التي توصّل إليها صولة أنّ «العدول في الكلام القرآني ليس لغاية أن يكون هذا الكلام جميلا وإنما لغاية أن يكون كلاما حجاجيا مقنعا بوجه من الوجوه. إنّ الكلام في القرآن عدول حجاجيّ أو من أجل الحجاج، وحجاجٌ يتوسّل العدولَ» (ص604).
4 - كما توصّل الباحث إلى نتيجة مفادها «أنّه بالإمكان طمس الهوّة الفاصلة فصلا صارما في البلاغة الغربية بين بلاغة الأسلوب من ناحية وبلاغة الحِجاج من ناحية أخرى» (ص605).
5 - ولعلّ نقد صولة لنظرية النظم عند عبدالقاهر الجرجاني (ت471هـ)، هي من الطرافة بمكان؛ إذ بيّن الباحث أنّ الجرجاني سجن نفسه «داخل دائرة البحث عن أسرار الجمال والحسن والمزية في معاني النظم القرآني بصرف النظر عن القيم الأخلاقية التي تحملها وبغضّ الطرف عن الأبعاد الحجاجية التي من أجلها استجلبت تلك المعاني» (ص 610) فالأحرى، حسب صولة، أن يكون الاهتمام بالجمال في دراسة النصوص الأدبية لا في دراسة النصوص الدينية. وبيّن أنّ هذه المسألة خلها أصول كلامية، ناقلا قول الجاحظ (ت255هـ): «مِن أحكم الحِكَم إرسال كلّ نبيّ بما يُفحم أعجب الأمور عندهم أي عند قومه] ويُبطل أقوى الأشياء في ظنّهم (...) فلمـّا كانت أعجب الأمور عند قوم فرعون السحر ولم يكن أصحابه قطّ في زمان أشدّ استحكاما فيه منهم في زمانه بعث الله موسى (ع) على إبطاله وتهوينه (...) وكذلك زمن عيسى (ع) كان الأغلب على أهله. وعلى خاصّّة علمائه الطبّ، وكانت عوامّهم تعظّم ذلك على خواصّهم، فأرسله الله عزّ وجلّ بإحياء الموتى؛ إذ كانت غايتهم علاج المرضى (...) وكذلك دهر محمد (ص). كان أغلب الأمور عليهم وأحسنها عندهم وأجلّها في صدورهم حسن البيان ونظم ضروب الكلام مع علمهم له وانفرادهم به. فحين استحكمت لفهمهم شاعت البلاغة فيهم وكثر شعراؤهم وفاق الناس خطباؤهم، بعثه الله عز وجلّ فتحدّاهم بما كانوا لا يشكّون أنهم يقدرون على أكثر منه» (الجاحظ، حجج النبوّة، ضمن رسائل الجاحظ، تحقيق عبدالسلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 1979، ج3، ص278-280).
هذا الكتاب «الحجاج في القرآن، من خلال أهم خصائصه الأسلوبية» مفيد من وجوه، فهو يقدم رؤية طريفة لنظرية النظم ويحاول أن يدرس النصّ القرآنيّ دراسة تخلو من الأبعاد الإسقاطية - وإن عن حسن نيّة - قصد بلوغ مرتبة علمية في تحليل بعض جوانب الأبعاد الحجاجية في هذا الكتاب المنزّل، دون الوقوع في تكرار أقوال القدماء أو تطبيق مقولات الغربيين بشكل أعمى، بل حاول الباحث أن يلتزم بمنهج عقلانيّ يدرس الخطاب القرآني في ضوء مباحث الحجاج، للوصول إلى إبراز أهمّ الخصائص الأسلوبية التي يتميّز بها، دون اشتراط أن يكون ذلك ممرّا قسريّا للرضوخ إلى قول إيديولوجيّ في شأن القرآن، نحو ما تفعل كثير من الدراسات غير المتحلّية بالانضباط المنهجيّ.
العدد 2771 - الأربعاء 07 أبريل 2010م الموافق 22 ربيع الثاني 1431هـ