في 18 فبراير/ شباط الجاري، غادر الروائي السوداني الكبير إلى شماله. شماله الخاص، بعد أن قدَّم لنا ذلك الشمال في وقت مبكِّر. قبل تفجُّر أطروحات الحوار بين الشرق والغرب. وحوار الحضارات. قدَّمه ليس باعتباره جهة، مكانا، حيزا؛ بل باعتباره مناخا للتكوين النفسي والذهني. مناخا لمحاولة المواءمة بين الاصطراعات التي تعج بها النفس، وخصوصا لرجل قادم من حدود تظل مغيبة ومهملة وغير حاضرة في ذاكرة الغرب/ الشمال. وإن حضرت فباعتبارها في حدود المهمل وغير ذي الجدوى بالالتفات إليه أو إعارته شيئا من إضاءة. كانت تلك إضاءته البارعة التي قدّم من خلالها قراءة نفسية وذهنية وإبداعية لحال الاصطراع ذاك. روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» التي أصدرها العام 1966، والتي وضعت ضمن قائمة أفضل 100 رواية في القرن العشرين، في العام 2000، من قبل مئة من كبار الكتَّاب ينتمون إلى 54 دولة.
أحداث الرواية انطلقت من الإقليم الشمالي في السودان. ثمة التقاط للتفاصيل على قدر كبير من الأهمية، بتوازٍ مع قدر كبير من اللغة الشعرية الساحرة التي فاجأ بها الطيب صالح قراءه ونقاده بعد زمن قصير من إصدارها في العاصمة اللبنانية (بيروت). الشمال الإفريقي بتنوعه الثقافي العربي/الإفريقي/النوبي. ذلك التنوع انعكس على مجمل الرواية من حيث بنائها أو من حيث الثيمات التي اكتنزت بها.
ربما لم تظلم أعمال روائية على قدر كبير من العمق والجمالية كما ظلمت الروايات الأخرى للطيب صالح، لطغيان حضور «موسم الهجرة إلى الشمال» وتلقف النقاد لها، عدا الترجمات المتعددة التي صدرت بها، ما أتاح له أن يتحول في زمن قصير إلى كاتب له حضوره العالمي المتميز.
روايات مثل «مريود» و»عرس الزين»، واللعب على الأسطورة والرمز في تلك الأعمال، لم تحل دون تقديمه لشخصياتها الملتصقة بالواقع. الواقع بكل تفاصيله المرئية وغير المرئية. أعمال روائية جعلت من الطيب صالح «ذاكرة السودان» كما أطلق عليه. تلك الأعمال لم تنل حظها من سحر الحضور ووهجه كما فعلت «موسم الهجرة».
اللغة الشعرية التي انحاز لها الطيب صالح منذ أعماله المبكرة الأولى كشفت عن ثراء لغوي ملفت، وقدرة ملفتة على تحويل العادي وإدخاله إلى الشعري بامتياز. لغة شعرية مبكرة في تجربة الكتابة الروائية العربية، من حيث حمولاتها ودلالالتها ولعبها على التنويع والذهاب بها إلى التحول والحراك والتجدُّد
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 2365 - الأربعاء 25 فبراير 2009م الموافق 29 صفر 1430هـ