استمرارا لمنهجية التقارب وفتح الحوار بين الطائفتين الكريمتين استضاف مأتم الإمام الباقر (ع) بقرية بوري الشيخ عبدالمحسن الجمري وصلاح الجودر في حوار مفتوح بشأن واقع الوحدة الإسلامية في البحرين.
مناسبة الندوة كانت في رحاب المولد النبوي الشريف لك جاءت بدايتها تحاكي ذلك الفيض الرسالي الخالد وتنهل من العطاء الوفير الذي جاء للبشرية كافة، فحضارة الإسلام عندما خاطبت الناس خاطبتهم مجردين عن الدين واللون والعرق، جاءت لتقول «أيها الناس» ولم تتأطر بدين ولم تتأطر بلون ولا بقبلية، فقد جاء الإسلام للناس كافة ولكنه اختص بالمسلمين لأنه أراد علاج الإنسانية عن طريق هذا النموذج باعتبارهم النموذج الأمثل ولم يأت لفئة دون أخرى، جاء ليقول إن الإنسان أخو الإنسان أحب أم كره ووقف المصطفى (ص) في وجه أولئك المتاجرين بالاعتبارات العرقية والعنصرية والقبلية وواجه هذه العناوين التي أثارها النفعيون الذين كانوا يعيشون على فتات هذه الاعتبارات الواهية وبفضل ما أعطى من قابليات استطاع أن يغلب على هذه العناصر وعلى مفردات أخرى كانت تتحكم في مصير الأمة.
لقد كان اللقاء كما قال صلاح الجودر منفتحا وجريئا بكل ما تعنيه الكلمة من أجل ملامسة الوحدة الوطنية واتسم بالرقي والاتزان في أسلوب الطرح ومناقشة القضايا لاستغلال مساحة الحرية وإبداء الرأي والقبول بالرأي الآخر.
لقد كان اللقاء فرصة لطرح أسئلة أكثر سخونة في الساحة البحرينية التي تشهد تجاذبات عدة، بدءا من عوائق التقارب بين الطائفتين الكريمتين على رغم المؤشرات الإيجابية والإشارات المحفزة التي انطلقت منذ بدء المشروع الإصلاحي والذي توجه الشيخ الجمري بزيارته التاريخية لجمعية الإصلاح. على رغم ما يلوح به ا لبعض من أن هناك ضغوطا تمارس من أطراف عدة ومن مختلف الأطياف والاتجاهات تحمل فكرا متطرفا تقوده الغوغائية ولا يؤمن بالوسطية، فهل من الصواب المجدي الإستسلام لهذه الضغوط التي تنخر في أعماق وطننا وتشتت جهود إصلاح ذات البين وما مدى جدية الشعارات المتباينة التي تعزف على وتر الوحدة الوطنية باعتبارهاالضمانة الكبرى في عالم اليوم الذي يشهد تحديات عدة؟ وهل لعبت الصحافة المحلية دورا رياديا في هذا المضمار بهدف وحدة الوطن وأبنائه لتكون دعامة من دعائم الإصلاح والتقارب؟ أم أن صحافتنا لاتزال تطل علينا من نافذة ضيقة أبطالها بعض الأقلام العابثة؟
فنرى وحدتنا الوطنية التي أشبعناها بحثا وتنظيرا تشنق يوميا على مقصلة الصحافة ولا من رادع ونذير، كان أضرها وليس آخرها افتتاحية لإحدى المجلات التي تصدرها إحدى وزارات الدولة والتي تصف شريحة كبيرة من أبناء هذا الوطن العزيز بأنهم فتنة مارقة ما فتئت تمضي في الهدم والتقويض والتربص لكل منجز وطني يعود نفعه لهذا الشعب الآمن، في الوقت الذي تدعي فيه الوطنية وما هم سوى حفنة من الضالين عن جادة الحق مع ازدواجية ولائهم وتحفزهم الدائم لتفكير الصفوة السائد بترهات وسلوك شائن معوج وجموح منفلت للنقد الهادم الهادر لجهود البناة المخلصين.
هذا الكلام الزاعق لا يمكن أن يكتبه مواطن في حق مواطن آخر، ذلك أن الجميع متفق على الإصلاحات السياسية التي توافق عليها الشعب ومن شأنها أن تعمق التموقع المذهبي والمتغلغل لدى بعض العقليات. أمثال هذه الكتابات المسمومة هي أكبر خطر يواجه وطننا لأنها تمزقه وتستعدي طرفا على آخر لتبث روح الكراهية والبغضاء بين أبناء الوطن، فحذار أن نترك الحبل على الغارب ونهيئ الأرضية لأصحاب الفكر المتطرف والمتموقع مذهبيا الذين اعتادوا على رؤية الباهر من الضوء فقط. بيننا من يتاجر بالوطنية ويعطي الأوسمة لمن يشاء ويلوح بالطائفية في كل مناسبة حتى باتت الطائفية في كل مناسبة في بلدنا لعبة مربحة يستمد منها البعض لخدمة مصالحه وتقوية نفوذه وأحيانا لضرب مناوئيه، فإذا أردت أن تفسد عملا أو مشروعا ما فاضربه بالطائفية وسترى جيشا من المطبلين يعزفون على الوتر نفسه.
لقد جاء الجودر إلى بوري وتكلم وتحاور في مأتمها وتناول طعام العشاء مع أهلها وبادلهم أطراف الحديث وتكلم بكل ما يدور في خلده من دون تحفظ أو خطوط حمراء أملاها الزمان والمكان. وما أن نزل من المنصة حتى اصطف له الأهالي كبارا وصغارا يسلمون عليه ويقبلونه وكأنه في أحد مجالس المحرق العامرة، ولا فرق بين بوري والمحرق، اللتين تألقتا في تلك الأمسية الرائعة فكان الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة والسيدضياء الموسوي في مجلس المرباطي بالمحرق في حوار عن الوحدة الوطنية، كانت بوري تحاكي تلك النفحة باستضافتها الجودر والجمري.
فلماذا يريد البعض أن يقتل روح التقارب والمحبة بيننا بحجج واهية وأفكار بالية لا تصمد مع واقعنا المعاش؟
إن هذه الصورة الرائعة يجب ألا تموت لأن بموتها يموت الوطن، وهل هناك أعز من الوطن؟
إننا - وكما قال صلاح الجودر - بحاجة ماسة إلى مراجعة وتقييم المرحلة التي نعيشها، في حاجة إلى مؤتمر وطني أشبه بما دعا إليه الشيخ عيسى قاسم يجمع كل الأطياف والقوى السياسية المختلفة، في حاجة إلى عرض قضايانا والنظر إليها من منظور تاريخي وإقليمي، في حاجة إلى تحكيم العقل والبحث عن المحنك السياسي الوطني الذي لا يوجه اتهامات الخيانة والتراجع والإنهزام لخصومه ولا يوزع صكوك الولاء والوطنية والإخلاص من أجل أن يبقى دائما في الصدارة.
تاريخنا الوطني بمراحله المشرقة يرشحنا للتمسك بوحدة الصف الوطني وهي قابلية لها جذورها المتأصلة. ما علينا تجاهها إلا أن نخلع أثواب الماضي القريب التي تحد من قدراتنا وتحجب عنا الرؤيا. فلابد أن نستذكر أن هذه القرية الصغيرة في حجمها كانت وماتزال وستبقى بوابة للتقارب السني الشيعي فقد سبق لها أن استضافت شخصيات سنية عدة كانوا محط تقدير واحترام وستبقى دافعا للوحدة الوطنية الصادقة، فالبلاد طالبت أهلها فلابد أن نجيبها بما يقويها ويعطيها عزة ورفعة
العدد 633 - الأحد 30 مايو 2004م الموافق 10 ربيع الثاني 1425هـ