جمعتنا المصادفة الجميلة أمام تمثال بوذا، قبل ستة أشهر بمجموعة من الصحافيين العرب العاملين في الكويت الشقيق: أردني من أصل فلسطيني، لبناني، ومصريتين. ودار الحديث كما يدور كلما اجتمع أحدٌ من أبناء الشعب العربي المسكون بالسياسة وهمومها. دار الكأس عن «قوس الأزمات»، من أفغانستان ولبنان وفلسطين والعراق، حتى وصلنا إلى دول الخليج. الجماعة كانوا على اطلاع واسع في هذا المجال بفعل طول إقامتهم في ربوع الخليج، فإذا تحدّثوا تحدّثوا حديث العارف ببواطن الأمور.
لما وصل الحديث عن البحرين وما تشهده من تطورات، انتهى الحديث إلى الموضوع الأسخن (التجنيس)، الذي أثار الكثير من اللغط والجدل والاحتكاك على الساحة المحلية، لينتهي إلى «هوشة» في البرلمان قبل أيام. ولأن الموضوع ليس من الموضوعات التي يحب الإنسان الخوض فيها وخصوصا أن «لعنة» الطائفية سرعان ما ستلحق باسمه ويناله الكثير من التشهير والشتائم، لذلك آثرت أن ألزم الصمت، احتراما للوطن ومراعاة لسمعته بين الأشقاء العرب. وكان من بين الحضور زميلة متجنسة حديثا، بدأت بإطلاق النار وتوزيع التهم الرخيصة كالمعتاد في صحافتنا المحلية، من تسقيط الأسماء الوطنية ومحاولة الاستيلاء على السلطة، حتى وصلت إلى التشكيك في ولاء سبعين في المئة من أبناء الوطن للوطن، حينها اضطررت إلى الحديث مرغما.
صاحبتنا مسلمة، واسم أبيها يدل على ذلك، ولكنها تبرّأت من دينها وقالت للصحافيين الآخرين إنها مسيحية! وهي تعرف العربية، ولكنها تتأبّى أن تنطق بها، فمن العار أن تتكلم بلغة محمد (ص) وأصحابه البررة (رض)، فالمجد هذه الأيام للغة المتحضرين وأسياد العالم وأبطال غزوات القرن الحادي والعشرين: بوش وبلير وحتى... أثنار وبرلسكوني.
في ردي حاولت أن أكون موضوعيا قدر الإمكان، لأتحدث عن المسألة كمراقب يسعى إلى توضيح الإشكال، وكل هاجسي أن لا أخدش سمعة هذا الوطن العزيز حتى في عيون مجموعة محدودة من الصحافيين الأشقاء، فيهمني جدا أن يبقى اسم البحرين ناصعا، جميلا، محترما، فالوطن وطن الجميع.
صاحبتنا تولت طرح المشكلة وكأنها ناطقة رسمية، وكان الحاضرون يربطونها بمشكلة «البدون» في الكويت، على اعتبار وجود تشابهٍ ما بين القضيتين. ولم أكن لأعترض على الجانب الإنساني في الموضوع، فنحن كلنا بشر والأرض أرض الله، والنعم نعمُه، ولكن المسألة أكبر من ذلك. فنحن في بلدٍ مأزومٍ، يعاني من مشكلات معقدة، نسبة بطالة مرتفعة وأزمة توظيف خانقة ستصل بعد تسعة أعوام إلى 100 ألف عاطل، وموارد محدودة تنعكس على خلق أزمات سكن ومواصلات وتعليم وكهرباء، فضلا عن أزمة مياه مقبلة. مثل هذا الوضع المعقّد يحتاج إلى تفكير ألف مرة قبل الإقدام على حركة تجنيس واسعة، حتى لو كانت بالآلاف، كيف والعدد الرسمي المتداول في الساحة يصل إلى 52 ألفا، بل إن رئيس مجلس النواب خليفة الظهراني فجّر قنبلة في وجوه الناس حين «رفع» الرقم إلى 120 ألفا.
نحن باعتبارنا بحرينيين ليست لدينا عنصرية، وقلوبنا مفتوحة للوافدين، عربا وأجانب، وليس لنا منّة على أحد، فهم يعملون ويكسبون رزقهم بعرق جبينهم، ولكن أن تتم حركة تجنيس واسعة في ظرف زمني قصير، فهذا ما سيدفع البلد ثمنه في المستقبل القريب، شئنا أم أبينا. فالأمور لا تؤخذ بالنوايا الطيبة والأماني الحسنة، حتى في البلدان المتقدمة التي يكثر البعض الاستشهاد بها، فهي تضع قيودا وحدودا لحركة الهجرة، وها هم البريطانيون يضعون القيود على حركة المهاجرين. حتى الأميركان - الذين كانت الهجرة أحد العوامل الكبرى في تحقيق ازدهار بلدهم وتحقيق هذه المعجزة الصناعية الكبرى عندهم - وضعوا قيودا وحدودا، فكيف ببلد لا تتجاوز موازنته السنوية 3 مليارات.
أنهيت حديثي بكلمة: «كل متحدث له مصلحة تحكم رأيه بمن فيهم أنا. ولا تنسوا أن صاحبتنا تتحدث عن امتيازات لم تكن تحلم بها في بلدها الأصلي». فعلقت الصحافية المصرية الشابة قائلة: «ابن عمي عندكم في البحرين حصل على الجواز من دون أن يسعى إليه، ألم تفكروا أنتم في البحرين بما حدث في الكويت بعد الغزو العراقي؟ كلهم خرجوا عند الخطر ولم يبقَ إلا أبناء البلد». سمعت الكلام ولم أتمكن من الرد، ورفعت بصري فإذا تمثال بوذا الذهبي متربع ببطنه المنبعج وحلقات الأقراط تتدلى من أذنيه، ينظر ساخرا لهؤلاء الستة الذين يتحدثون في معبده في بانكوك بلغة لم يسمعها قط، وعن موضوع لم يخطر له على بال، على رغم اقامته على هذه المصطبة منذ 2500 عام
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 633 - الأحد 30 مايو 2004م الموافق 10 ربيع الثاني 1425هـ