العدد 630 - الخميس 27 مايو 2004م الموافق 07 ربيع الثاني 1425هـ

المسلمون بين عولمة الأخلاق وأخلاق العولمة

منتدى الوحدة والثقافة الإسلامية الثالث

صلاح علي comments [at] alwasatnews.com

وزير شئون حقوق الانسان

بعض الناس يخلطون بين العولمة والعالمية، يعني نحن عالميون، لأن الإسلام رسالة عالمية من غير شك، من أول يوم جاء الإسلام وهو يعلن عالميته، في القرآن المكي «إن هو إلا ذكر للعالمين» (ص: 87)، «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» (الانبياء: 107)، «ليكون للعالمين نذيرا» (الفرقان: 1). فعالمية الإسلام لاشك فيها، واختلاف أوطانهم واختلاف طبقاتهم، ناداهم «يا أيها الناس إني رسول الله إليكم» (الأعراف: 185)، وترفعها عن الأطماع المادية أو الاقتصادية أو سلب ثروات الأمم والشعوب وإنما تحرص على إغناء الناس ورفاهيتهم وتحسين ظروفهم المعيشية، قال أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز: «إن الله بعث محمدا بالحق هاديا ولم يبعثه جابيا»، ومن هذه الأهداف إحقاقها الحق ومقاومة الباطل، فلا تمس حقا للآخرين في الدماء والأنفس والأعراض والأموال «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون» (التوبة: 33).

ومن ذلك معاملتها جميع الناس على أساس ثابت وأصيل في العدل والإحسان والتسامح والحرية والمساواة في كل شيء ومن القيم الإنسانية والتكاليف أو الالتزامات «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون» (النحل: 90)، وقال الله تعالى في الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا».

ومن ذلك احتضانها كل القيم الإنسانية العليا التي تنظم المجتمع على أساس التعاون والتضامن والسلم والأمان والمحبة والفضائل والأخلاق وكفالة كرامة الإنسان والتعامل الطيب بين الجميع «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم» (الحجرات: 13). قال النبي (ص): «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وهذا إعلان صريح بحقوق الإنسان على نحو أصيل لا يخدش في السلم أو الحرب، وتنظم للعلاقات الدولية على أساس من المعاهدات المتكافئة . فهذه العالمية نحن نؤمن بها، لا نؤمن بالعرقية أو الإقليمية أو الطبقية، ولا نؤمن بأي شيء يفرق بين الناس، بل جاء الإسلام ليذيب الفوارق ويجعل الناس أسرة واحدة، تشترك في العبودية لله تعالى وفي النبوة لآدم، ولذلك قال النبي (ص) في حجة الوداع أمام الجموع الحاشدة: «أيها الناس، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لأحمر على أسود، ولا لأعجمي على عربي، ولا لعربي على أعجمي، إلا بالتقوى»، فهذا ما جاء به الإسلام، أما معني كلمة العولمة فهذا تعبير جديد لم يكن معروفا من قبل، وكانوا من قبل يعبرون عنه بالنظام العالمي الجديد، وبدأ في أيام بوش الأب أيام حرب الخليج، وأيام حشد الدول الثلاثين للوقوف في وجه العراق حينما احتل الكويت، كانوا ينادون بشيء اسمه النظام العالمي الجديد وسرعان ما اختفت هذه الكلمة لتحل محلها كلمة العولمة، وهي مصدر، مشتق من العالم، عولمة يعني جعل الشيء عالميا كما نقول: «القولبة» من القالب: تقولب الشيء تجعل له قالبا، فالعولمة هي جعل الأمر سواء كان اقتصادا، ثقافة، سياسة، عالميا، ولذلك فالذين ينادون بالعولمة يقولون: نحن نريد قرية كونية، ان نجعل العالم قرية كونية، أو سوقا كونية.

ثقافة بلا عواطف

إن ثقافة العولمة ثقافة مادية بحتة لا مجال فيها للروحانيات أو العواطف النبيلة، أو المشاعر الإنسانية، تهمل العلاقات الاجتماعية القائمة على التعاطف والتكافل والاهتمام بمصالح وحقوق الآخرين ومشاعرهم. فهي تشكل عالما يجعل من الشح والبخل فضيلة، ويشجع على الجشع والانتهازية والوصول الى الأهداف بأية وسيلة دون التفات الى القيم الشريفة السائدة في المجتمع. ووسائل العولمة في مجال الإعلام والاتصالات - وخصوصا الأقمار الاصطناعية - التي تلف حول العالم في كل لحظة، وتتسلل الى البيوت على وجه الأرض دون استئذان، وتلعب بشخصية الأفراد والأمم جميعا تثير في برامجها وأنشطتها الشهوات الجنسية، وتزين عبادة الجسد، وتشيع أنواع الشذوذ، وتحطم قيم الفطرة الإنسانية الرفيعة، فتتناقض بذلك مع النظام الاجتماعي والأخلاقي الذي أراد الإسلام في ظله أن يبني مجتمعا نظيفا فاضلا عفيفا. جاء في خطاب الرئيس بوش الابن - عن الاتحاد اليهودي المسيحي في 29 يناير/ كانون الثاني العام 2002: «ومن الآن فصاعدا يحق للعالم: تناول الخمر والتدخين، وممارسة الجنس السوي أو الشذوذ الجنسي، بما في ذلك سفاح القربى واللواط، والخيانة الزوجية، والسلب والقتل وقيادة السيارات بسرعة جنونية، ومشاهدة الأفلام والأشرطة الخلاعية داخل فنادقهم أو غرف نومهم».

إن التأثر بالغرب من شأنه أن يساهم في تفشي الفردية والمظاهر الاستهلاكية، لتفقد الأسرة الكثير من مقوماتها وتصبح كيانا ماديا بدلا من ان تكون محضنا لتربية وتكوين الأولاد، ومدرسة لإعداد الرجال. إن صناعة السينما والفضائيات والموضة ومستحضرات التجميل، ووسائل الترفيه، نجحت في التأثير على المرأة من خلال تشكيل نموذج معين للمرأة العصرية يتناقض مع الهوية الإسلامية للمرأة. على المرأة المسلمة أن تحافظ على هويتها وأصالتها في زمن كثرت فيه الأيادي في الداخل والخارج، سرا أو علانية متآمرة على طمس هذه الهوية.

والصحيح انه تم وضع ضوابط وقوانين واتفاقات تنظم وتؤطر للعولمة الاقتصادية والتجارية تتجلى في منظمة التجارة العالمية واتفاقات التجارة الإلكترونية وتشريعاتها، وتتكفل القوى الكبرى بتسخير المنظمات الدولية لفرض متطلبات العولمة في المجال السياسي، أما الجوانب الأخلاقية وتأثيراتها، فتترك هكذا فضفاضة، وتتكفل آليات العولمة بفرض أخلاقياتها أو بالأحرى الأخلاقيات التي يجري تفصيلها في الغرب ليتم ترويجها بين شعوب العالم الثالث بما يخدم الهدف الأساسي الاقتصادي التجاري السياسي.

وإذا كان شأن المال والأعمال والسياسة هو في يد الكبار فإن أمر الأخلاق يمكن ان يسهم في صوغها الصغار ونقصد بها مؤسسات المجتمع المدني ومن خلال آليات العولمة وخصوصا الانترنت، بالدعوة الى عولمة الأخلاق التي جاءت بها الأديان السماوية بدلا من الاستسلام الى أخلاقيات العولمة التي تحاول ان تفرضها الأديان الأرضية وفي مقدمتها رأس المال.

وهذا الهم لا ينشغل به العالم الإسلامي فقط، وإنما هو هاجس عالمي يمكن ان يتلاقى حوله أهل الأديان السماوية، وأيضا غالبية الشعوب التي باتت تشعر بتهديد حقيقي لأخلاقها وقيمها، من جانب أخلاقيات العولمة المصنعة.

كما ان هناك قطاعا كبيرا من النخب المثقفة أصبحت تدرك هذا التهديد الأخلاقي لقيم العولمة الخادعة لتوغل رأس المال ولو كان على حساب تشريد ألوف العمال، واستنساخ البشر واللعب في الجينات الوراثية وهتك براءة الأطفال. ولاشك ان العولمة الثقافية والأخلاقية هي أشد خطرا من العولمة الاقتصادية على أساس ان الفكر هو المؤثر الأول في سلوك الإنسان.

والشيء الذي لا يجوز عولمته هو الثقافة، لأن الثقافة ليست هي العلم، الثقافة هي ما يعبر عن خصوصية كل أمة، في عقائدها وشرائعها، وقيمها وأخلاقها ونظرتها الى الكون والحياة والإنسان. هذه الفلسفة تختلف من أمة إلى أمة، فلابد ان تبقى للأمم خصوصياتها، والبشرية تستفيد وترتقي بهذا التنوع، لأن كل واحد يستفيد من الآخر، القرآن يعبر عنه باختلاف الألوان «ألم تر ان الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها» في الطبيعة، «ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك»، فاختلاف الألوان في الحضارات والثقافات أمر مطلوب، فتستفيد الحضارات بعضها بعضا، ومن هنا لا ندعو ولا نقبل منطق الذين ينادون بحتمية صراع الحضارات أو صراع الثقافات كما قال (هنتنجتون) وغيره، ولكن ننادي بما نادى به جارودي وبيكو وغيرهما ما جعلته الأمم المتحدة هذا العام ونادى به الرئيس خاتمي، وهو حوار الحضارات، ونحن نرحب بهذا، ان تتحاور الحضارات وتتفاهم وتتعايش، ويأخذ بعضها من بعض، كل حضارة تأخذ من الحضارة الأخرى ما تفوقت فيه عن طريق التلاقح الفكري والثقافي والأخلاقي بدل التصارع، إذا أردت أن تكون أنت السيد وحدك، وان تفرض حضارتك وثقافتك على العالم، فهذا هو الاستعمار الجديد، وهذا ما نرفضه، وهذا للأسف ما حاولته الأمم المتحدة حتى بتأثير الولايات المتحدة في المؤتمرات الدولية المختلفة، في مؤتمر السكان في القاهرة، حاولوا ان يفرضوا وثيقة معينة تتضمن الثقافة الغربية أو الثقافة الإباحية، ثقافة إباحة الاجهاض والشذوذ الجنسي والعري وسلب سلطة الأبوين على الأولاد في تربيتهم. يريدون ان تكون هذه الثقافة كونية، وان تفرض على الأمة الإسلامية، التي عندها شيء اسمه الحلال والحرام، وما يجوز وما لا يجوز، فتريد ان تلغي خصوصيتي هذا

مؤتمرات للإفساد

وهناك مؤتمران في بكين العام 95 مؤتمر المرأة أيضا بقيم معينة يراد ان تفرض في قضية المرأة، يراد ان يمرروا بها ما لم يمر في مؤتمر القاهرة، تحت عنوان حقوق الطفل، ومما يذكر أنه وقفت الكنيسة الكاثوليكية الفاتيكان مع الأزهر الشريف، ومع رابطة العالم الإسلامية في مكة، ومع جمهورية إيران الإسلامية، وقف هؤلاء جنبا الى جنب ضد هذه الموجة، موجة الدعوة الى الانحلال والتفسخ الأخلاقي. مشكلة الحضارة الغربية التي تمثلها أميركا الآن باعتبارها القطب الأعظم أو الأوحد، هي أنها أصبحت تتبنى المادية في الفكر والإباحية في السلوك، وهذه خطر على البشرية وعلى مستقبل البشرية ومصير الإنسانية كلها.

وهذا التفسير يوضح لنا لماذا الإصرار على مناقشة قضايا أخلاقية واجتماعية في هذه المؤتمرات، فهي نوع من العولمة لقيم اجتماعية غربية محددة، ووضع المجتمع الدولي برمته على قدم المساواة مع الانهيار الأخلاقي والاجتماعي الذي انحدر إليه الغرب؛ فالأسرة مثلا تعتبر الركيزة الاجتماعية الباقية على قدر كبير من التماسك والقوة في المجتمعات الشرقية بينما هي في الغرب تعتبر عمليا من مخلفات الماضي، وان بقيت لها أهمية عند بعض المفكرين وبعض المؤسسات الدينية، ويراد هدم هذه الركيزة في المجتمعات غير الغربية عن طريق إخراج المرأة من تميزها النوعي والإنساني.

يقول الباحث عماد الدين خليل: «وفي الجانب الاجتماعي تسعى العولمة الى تعميم السياسات المتعلقة بالطفل والمرأة والأسرة وكفالة حقوقهم في الظاهر، إلا ان الواقع هو إفساد وتفكيك الأفراد واختراق وعيهم، وإفساد المرأة والمتاجرة بها، واستغلالها في الإثارة، والإشباع الجنسي، وبالتالي إشاعة الفاحشة في المجتمع، وبالمقابل تعميم فكرة تحديد النسل، وتعقيم النساء وتأمين هذه السياسات وتقنينها بواسطة المؤتمرات ذات العلاقة: «مؤتمر حقوق الطفل»، «مؤتمر المرأة في بكين»، «مؤتمر السكان»، وما تخرج به هذه المؤتمرات من قرارات وتوصيات واتفاقات تأخذ صفة الدولية، ومن ثم الإلزامية في التنفيذ والتطبيق... وما تلبث آثار ذلك ان تبدو واضحة للعيان في الواقع الاجتماعي استسلاما وسلبية فردية، وتفككا أسريا واجتماعيا، واحباطات عامة، وشللا تاما لدور المجتمع الذي تحول الى قطيع مسير ومنقاد لشهوته وغرائزه، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا».

إن العولمة تجيز الشذوذ الجنسي والعلاقات الجنسية الآثمة بين الرجل والمرأة، بل بين الرجل والرجل، ولبيان هذا الجانب الخطير المدمر ويظهر ذلك عند مراجعة وثيقة مؤتمر الأمم المتحدة المسمى المؤتمر الدولي للسكان والتنمية الذي عقد في القاهرة العام 1994، وأذكر هنا بعض الأمور التي ركزت عليها هذه الوثيقة:

الفرد هو الأساس ومصالحه ورغباته هي المعيار، لا الدين ولا الأمة ولا العائلة ولا التقاليد ولا العرف. ومن حق الفرد التخلص من القيود التي تفرض من جانب تلك الجهات.

تتحدث عن ممارسة الجنس من دون ان تفترض وجود زواج، وعن ممارسة الجنس بين المراهقين من دون ان تستهجنه، والمهم في نظر الوثيقة ألا تؤدي هذه الممارسة الى الوقوع في الأمراض، والواجب توعية المراهقين وتقديم النصائح المتعلقة بممارسة الجنس ومنع الحمل، وتوفير منتهى السرية لهم، واحترام حقهم في الاحتفاظ بنشاطهم الجنسي سرا عن المجتمع.

تستهجن الوثيقة الزواج المبكر لأنه يؤدي - في نظرها - الى زيادة معدل المواليد.

الإجهاض: لا تدين الوثيقة الاجهاض ، المهم ان يكون الاجهاض آمنا لا يهدد حياة الأم. «إن الاجهاض الذي تدعو إليه منظمة الأمم المتحدة من خلال مؤتمرها هذا، صلته وثيقة بالإباحية للجنس، المسقطة للقيود والالتزامات، دونما شرع أو قواعد آمرة ضابطة، وعلينا الوعي بأن الحديث عن الاجهاض في هذا المؤتمر لم يكن حديثا عن كونه حكما، أو فتوى لحال أو حالات معينة وإنما كان الحديث عنه بحسبانه سياسة عامة، ما يعني ان الاجهاض بهذا المعنى اسناد للإباحية».

استهجنت الوثيقة الأمومة المبكرة - من دون أن تميز بين ما إذا كانت هذه الأمومة حدثت في نطاق الزواج الشرعي أم خارجه - لأنها تزيد من معدلات النمو، وتقيد المرأة عن العمل والمساهمة في الإنتاج!

استخدمت الوثيقة لفظ «قرينين» بدلا من زوجين، فلفظ قرينين أكثر حيادا لأنه لا يفترض وجود رباط قانوني معين، ما يجعل الشذوذ الجنسي والعلاقات الجنسية من دون زواج أمرا جائزا ومقبولا.

تدعو الوثيقة الى المساواة التامة بين الرجل والمرأة، وحثت المرأة على إلغاء الفوارق الطبيعية بينها وبين الرجل، ومن ذلك اشتراك الرجل في الأعمال المنزلية ورعاية الأطفال أسوة بها، من دون النظر الى اختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بينهما.

كما يراد من هذه المؤتمرات ان تكون معولا بيد ضحاياها لهدم ما تبقى من عناصر قوة في مجتمعات العالم الثالث والإسلامي، بعد ان وضع الغرب يده على الموارد الطبيعية، وهي القوة البشرية الكثيفة التي يتمتع بها هذا العالم، وذلك ما يمثل هاجسا للغرب، الأمر الذي عبر عنه بصراحة رجل المخابرات الأميركي صامويل هنتنجتون صاحب كتاب «صراع الحضارات»، إذ قال: «إن زيادة عدد السكان المسلمين وخصوصا في منطقة البلقان والشمال الإفريقي وآسيا الوسطى كانت أكبر مما حدث في العالم عموما، ونمو السكان في البلاد الإسلامية بمعدل عشرة أضعاف النمو السكاني في بلدان أوروبا الغربية، ويغير هذا التطور بصورة أساسية (التوازن الديني في العالم)، مثلا: تدل التقديرات على أن المسلمين شكلوا 18 في المئة من سكان العالم في العام 1980 ونحو 23 في المئة من سكان العالم في العام 2000، وسيشكلون نحو 31 في المئة في العام 2025، ومن ثم يزيد عددهم على السكان المسيحيين!».

عولمة ضد الأخلاق

ويشير طلال عتربسي الى ان التحولات التي بدأت تتسلل الى علاقات الناس فيما بينهم والى الأهداف التي يسعون الى تحقيقها، والى القيم التي يدافعون عنها، ومن ذلك على سبيل المثال قيم السرعة والقوة والربح والمنفعة، في كل شئون الحياة، على حساب قيم التضحية والمساعدة والتعاطف. حتى أمكن القول إن العولمة هي ضد الأخلاق، وانها بدأت تستهلك القيم التي أنتجتها المراحل السابقة من تاريخ البشرية. ويرى - في دراسة له عن العولمة والأخلاق - ان القيم الجديدة ستدمر ليس فقط العلاقات الإنسانية، وإنما أيضا ما أنتجته العولمة نفسها... هذا الى جانب التلاعب الدولي بالموضوع الأخلاقي، بين التأييد النظري للمبادئ الأخلاقية وبين انتهاكها على مستوى الممارسة من تأييد حقوق المرأة وإنسانيتها، الى استخدامها موضوعا للاستهلاك الجنسي... ومن الدعوة الى حقوق الطفل الى حماية الشبكات الدولية التي تتاجر بهؤلاء الأطفال، وتستغلهم جنسيا وخصوصا في الدول الفقيرة. الى حماية شبكات الفساد والمافيات التي لم تستثن أحدا والتي تتجاوز سلطتها سلطة الحكومات نفسها في أكثر من مكان في العالم. فضلا عن النفاق السياسي الذي تمثله حماية الديكتاتوريات عندما لا تتعارض مع سياسات الدول الكبرى، أو من خلال تدمير البيئة والثروات الطبيعية من أجل مصالح الشركات الكبرى في العالم، مثلما فعلت الولايات المتحدة عندما رفضت توقيع بروتوكول كيوتو للمناخ من أجل الحد من التلوث الذي تتسبب به الدول الصناعية بالدرجة الأولى، مبررة ذلك بأنه يضر بمصالح الشركات الأميركية!

ولاشك في أن هذا التدفق الهائل من القيم الجديدة يثير القلق والاضطراب في الدول التي لاتزال الاخلاق تشكل فيها مرجعية ثقافية ودينية وسلوكية وتربوية، من هنا تواجه الدول العربية والإسلامية تحديات مهمة، ومن أجل الاستجابة لها نطالب بضرورة البحث في حماية الأسس التي تشكل نظام المناعة في ثقافتها، وفي مقدمتها النظام التربوي داخل الأسرة أو المدرسة، فضلا عن الدور المهم الذي يمكن ان تلعبه النخب الثقافية والدينية والاعلامية في تثبيت نظام المناعة ودعمه، وهذا يحتاج الى استراتيجية وطنية شاملة، إذ لا تكفي جهود بعض المنظمات والجمعيات، على رغم أهميتها.

ويمكن بيان تأثير العولمة على القيم والأخلاق من خلال النقطتين الآتيتين:

1- إن الحديث عن عولمة الاقتصاد وعولمة الثقافة، يتبعها الحديث عن عولمة الأخلاق، أي أن تقوم الجماعات البشرية باتباع نظام معين للأخلاق يكون مستقلا عن كل من العلم والسياسة باعتبار أن موضوعات الأخلاق تختلف عن موضوعات العلم، وذلك ما يؤدي إلى زوال الخصوصية الأخلاقية لكل مجتمع.

2- إن الحديث عن الأخلاق، يتبعها أيضا الحديث عن الدين، إذ إن العولمة تناقض واضح لتسامح بين الأديان، ولا يمكننا أن نعرف جوهر تلك العملية الأميركية، إلا من خلال المصالح التي تسعى إلى تحقيقها.

العولمة تحارب الهوية العربية والإسلامية، إذ ترى أن الحديث عن وجود هويات مختلفة في العالم يؤدي إلى مزيد من الانقسام، وأنا أعتقد أنها تناست أن الاختلاف في بعض الأمور يشكل تكاملا لها، مثلها مثل التخصص في مجتمع معين. كذلك تدعو العولمة إلى إغلاق الجانب التاريخي للإنسانية، وفتح المجال للوضع الجديد في التبلور والإبداع، وذلك ما تناقضه الهوية العربية، على اعتبار أن التاريخ المشترك عنصر من عناصر الهوية. ولو تمعنا بوجود هوية عربية مميزة، وعولمة جامعة للعالم، نرى أن ذلك لا يؤدي إلى الانتاج بالمعنى الشامل، ما يدفعنا إما إلى اتباع العولمة أو الصمود والدفاع عن هويتنا العربية الإسلامية.

إن مخطط العولمة يسعى إلى تحقيق ثلاث عمليات:

العملية الأولى: انتشار المعلومات، إذ إن أية معلومة في أي مجال يمكن أن تكون متاحة لكل أحد، وقد نجحوا في هذا من خلال ما أسموه بمعجزة هذا العصر وهو: «الانترنت» الذي يمكنك أن تدخل على جميع الدول و تحصل على أي شيء تريد بالصورة والصوت خلال دقائق معدودة وأنت في بيتك، وفي هذا فتح لباب من الشر عريض يفوق شر القنوات الفضائية بمراحل ومراحل.

العملية الثانية: تذويب الحدود، وهي محاولة لتحطيم الحدود الجغرافية بين دول العالم، وفي البداية العملية اختيارية، وبعد فترة من لا يوافق يبقى معزولا عن العالم، وسيحارب ويحاصر اقتصاديا حتى يرضخ إلى هذا المخطط الرهيب، ولعل توحيد أوروبا نواة لهذا المخطط.

العملية الثالثة: زيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمؤسسات والمجتمعات، عن طريق تسهيل حركة الناس والمعلومات وجميع السلع. ومع مرور السنوات تزيد معدلات التشابه وتختفي بعض الفوارق شيئا فشيئا وخصوصا إذا كانت شركات العالم واحدة وكذلك مؤسساتها وإعلامها وغير ذلك - هكذا زعموا.

كيف نواجه العولمة؟

وبناء على ما سبق فإنه يمكن حصر الاستراتيجيات المطروحة أمام العالم الإسلامي للتعامل مع العولمة في الاستراتيجيات الآتية:

1- فك الارتباط مع الغرب، والاعتماد على الذات، ثم الاعتماد الجماعي على الذات.

2- الاندماج المطلق مع العولمة.

3- التفاعل الإيجابي الرشيد.

وهو الخيار الأكثر واقعية أمام الدول الإسلامية، بالتعامل الإيجابي مع العولمة بهدف فهم مضمونها، وتحجيم الخسائر المتوقعة، والحصول على أكبر المكاسب الممكنة. فالدول الإسلامية لا تملك رفاهية الرفض المطلق، حتى إن كانت تنظر إلى العولمة من منظور الانتقاد والتحفظ.

ويمكن القول إن الاستراتيجيات المتاحة أمام الدول الإسلامية لابد أن تتسم بثلاث خصائص:

الخصيصة الأ

إقرأ أيضا لـ "صلاح علي "

العدد 630 - الخميس 27 مايو 2004م الموافق 07 ربيع الثاني 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً