خَطَرَ لي والعالم يعيش أزمة أخلاقية حقيقية مريعة تجاوزت كل الحدود من أجل استحصال المال والقوة بغير مشروعية أو مواثيق أو عهود أن أقرر الفكرة التي تقول إن إصلاح الجسم لا يمكن أن يبدأ إلاّ إذا بُدئ بأحد أعضائه، وإن إصلاح هذا العالم الموبوء يجب أن يبدأ بإحدى دوله، وإصلاح المجتمع لا بد أن يبدأ بأفراده الآحاد كخطوة في الاتجاه الصحيح. لذلك فقد بتُّ أكثر اقتناعا من أي وقت مضى بأن الدوافع والمحفزات والايديولوجيات والأفهام يجب أن تُصلح، وبما أنني عربي ومسلم فقد وجدت أن جدية التفكيرِ في واقعنا العام هو واجب والضغط على فرامل العجلة المعتوهة لكي لا تسير بنا أكثر مما سارت نحو المجهول بات مُلحّا والإندفاعُ نحو المجهول الذي أقصدُ هو الاستمرارُ على نفسِ الأنماطِ الكلاسيكيةِ من التفكيرِ في التعاطي مع ملفات حيوية وساخنة في الساحة العربية والإسلامية أهمها قضايا الوحدة الإسلامية والتئام وصَلاتها وأجزائها التي تقطعت بفضل مؤامرات الخارج وجهل الداخل، مُحيلة كل حلم في التلاقي والاصطفاف إلى الوأد والتراب، على رغم ما تمتلكه جغرافيا وسوسيو - ثقافية هذا العالم الإسلامي من مقومات متينة في سبكها البنائي والمعرفي.
ولكي لا أبخس الناس أشياءهم يجب أن أشير في هذا المضمار، إلى أنه لا يمكن للمرء أن يُقدّر جهود الكثيرين من المُصلحين وفي طليعتهم الإمام الخميني (قده) في الحد من المسألة الطائفية إلاّ إذا وضعها في سياق طويل من التنابذ وسوء الفهم المستحكم بين السنة والشيعة على مدى مئات السنين، وخصوصا الجهود التي بذلها الإمام على مستوى تنميط النظام السياسي على أسس دينية ممزوجة بتحالفات حداثوية مكتومة مع براجماتيا السياسة. فعلى رغم أن النظام الإسلامي في إيران قد اصطبغ بهوية شيعية صرفة فإنه وعلى المستوى التشريعي والإجرائي قد طعّم هياكله بإثنيات ومذاهب تتباين معه في العقيدة والفهم الديني، فأدخل أهل السنّة في مجلس خبراء القيادة (أعلى سلطة رقابية على المرشد في إيران) وفي مستشارية الرئاسة، وفي مجالس شوروية متعددة، وفكّ القبضة على حوزاتهم ومجاميعهم الدينية في كشت سروان وزاهدان وجابهار. كما قام بجهود مختلفة لرأب الصدع بين الطائفتين في مواقف وأمكنة مختلفة امتدت من موسم الحج ومرورا بأسبوع الوحدة وحتى منعه طباعة ثلاثة أجزاء (أو يزيد) من كتاب بحار الأنوار لاحتوائها على نصوص لا تخدم مسائل الوحدة ولا مشروعاتها، كل ذلك يجب ذكره، إلاّ أن ما يُمكن التأكيد عليه أن تلك الجهود (وبالإضافة إلى أنها قد حصلت في بقعة جغرافية محدودة) قد تضيع في زحمة الكثير من المُغذيات المهمّة التي تُذكي الخلاف السني الشيعي وتفتح له ساحات رحبة من المعارك الخصبة للاحتراب والتقاتل، وأعني بتلك الروافد كتب التراث الإسلامي، فهذه الكتب التي تشتمل على الآلاف من النصوص والأفكار والمقولات صيغ جلَّها أو أقل في أزمنةِ التكوينِ الايديولوجي للفكرِ الإسلامي، ومن ثم أخضِع مجبورا لإملاءاتِ الصراعِ من أجل البقاء الذي خاضته المذاهبُ والتياراتُ الإسلامية هي موطن الخلل والداء، لذلك فإن مقولة العلامة السيد مرتضى العسكري بأن الصراع بين السنة والشيعة سياسي وليس عقائديا هو عين الصواب والحقيقة المُغيَّبة.
لقد اشتملت كتب التراث على مادة نصوصية دسمة كانت ومازالت سببا في تصاعد حدة الاستقطاب الثنائي بين السنة والشيعة، فالفريقان صارا يرجعان إلى كتبهما لنبش ما يُمكن الاستقواء به والتآمر من خلاله على الطرف الآخر، لذلك فإن الوحدة الإسلامية لن تتحقق إلاّ إذا جعل المسلمون عقولهم في رؤوسهم وليس في آذانهم كما قال السيدفضل الله.
ان الدعوة التي أطلِقَت من قبل ولاتزال مُدوّية في سماءِ الفكرِ والقاضية بضرورةِ تنقِيحِ وتنقيةِ الكتبِ الإسلامية (سُنة وشيعة) لهي دعوةٌ أولا وأخيرا للعقلاءِ من القيّمينَ على تراثِ ديننا، وهي دعوةٌ صادقةٌ وغيــورةٌ تهدفُ إلى إعادةِ النظرِ في كثيرٍ من المختَلقَاتِ التي سُطِّرَت على صفحاتِ كتبِ الحديثِ والتراثِ من سقيمٍ ومرسلٍ وآحاد... لأن اختِلاطَها بالشكلِ الحالي يجعلُها موضعَ شبهةٍ ويثيرُ شكوكا وتخمينات.
ولعلِّي لا أتجاوزُ إذا قلتُ إن التهاونَ غير السليم الذي انتهَجُه و ينتهجه الإسلاميون تجاهَ سياسةِ الإبقاءِ على ما هو موجودٌ من مادةٍ تراثية وروائية خام هو الذي جَعَل فتاوى التكفيرِ تتطايرُ رخيصة في سوقِ المذهبيةِ كحلٍ متقدِّمٍ لمعالجةِ القضايا، إذ إن الحديثَ يُؤخَذُ كصحيح عند أهل السُّنةِ لتصاغ به فتـــوى، والحديث عند الشيعةِ يؤخذُ كصحيحٍ إذا كان سَنَدُهُ مُعتبرا، وإذا لم يكن كذلك يتم توظيفه في عمليات الحشو الدوغماجية التي يستعملُها البعض ظنا بأن في ذلك صالح دينه وعقيدته. وكلا الطريقتينِ خطرانِ داهمان.
إنني أطلِقُها من هنا وقد أطلقها من قبلي كثيرون، أن مسئوليةَ الفرز والتنقيحِ التي تنتظرها كتُب الإسلامِ لإيجاد وحدة حقيقية صادقة، لهي مسئوليةُ الجميع؛ بدءا من العمامةِ ومرورا بالمجامعِ العلميةِ والحوزويةِ والأزهرية، فالمثقفونَ إلى حيثُ نحنُ العوام، والتاريخ كذلك ينتظرُ منا موقفا شُجاعا، والأجيالُ القادمة تنتظرُ منا استنارة عقلية تضيءُ لها الطريقَ في المستقبل لتفتحَ أعينَها على تراثٍ نظيفٍ يساعد على الالتئام ورصّ الصف، ولا يُنظِّرُ و لا يُشرعِنُ للخرافةِ والتَجهيلِ ولا يرفعُ لواءَ الإمعانِ في السخرية بالطوائف الأخرى، ولبناءِ تلك الثقافة الصحيحة يتوجَّبُ علينا جميعا إقامة احتفالاتٍ إعلاميةٍ حافلة وجلساتِ عملٍ نافعة، لا كرنفالات فارغة
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 630 - الخميس 27 مايو 2004م الموافق 07 ربيع الثاني 1425هـ