اختلف المجتهدون كثيرا في تاريخ الإسلام، وكان الاختلاف حسنة للدين و«رحمة» للمؤمنين، لأنه يقدم للمسلم سلسلة اختيارات ولا يضعه أمام اختيار واحد. فالحق في المفاضلة بين الحسن والأحسن يسهم في تطوير الوعي ويدفع العقل نحو البحث عن الحقيقة أو التفكير فيها.
وأساس حرية التفكير اعطاء الإنسان فرصة للنقد وإعادة قراءة المعطيات لاستخراج ما يراه مناسبا للمصالح «المرسلة». فمراعاة المصالح تُطَور النظام العام لكل الناس. فهي تعني في جوهرها الفلسفي معرفة «مجرى العوائد المستمرة» كما يقول المشرّعون. وبسبب وعي المصالح ومراعاة مجرى العوائد اختلفت الأحكام بين قطر وآخر عند اختلاف العوائد. فالاختلاف سببه ليس اختلاف المجتهدين في استنباط الأحكام على المستوى النظري بل حصل بسبب اختلاف الواقع العملي بين قطر وآخر. فكل الأحكام في معناها البعيد صحيحة حتى لو اختلفت في مبناها القريب. فالبيان ليس أساس الاختلاف بل الواقع هو الذي أسس الاختلاف. والحكم الذي يصح في منطقة ليس بالضرورة هو الحكم نفسه الذي يصح في منطقة مختلفة في عوائدها وظروفها الاجتماعية وطبيعتها الجغرافية.
التقط ابن خلدون في «مقدمته» هذا الاختلاف في الأحكام بين مشرّع وآخر وأقدم على تفسيره انطلاقا من إعادة قراءة الحكم في ضوء التجربة والحياة العمرانية (الاجتماعية). فالعمران (البناء الاجتماعي، الاقتصادي، السياسي والثقافي) هو أساس المصالح المرعية في كل ملة ومذهب. وفقه المعاملات هو إعادة تأويل الأصول في ضوء الواقع التاريخي - الاجتماعي. وفي هذا المعنى جاءت الفروع متجانسة دائما مع العمران.
وفي ضوء هذا الوعي التاريخي نجح ابن خلدون في تفسير أسباب الاختلاف بين المجتهدين وفي تحليل العوامل التي أسهمت في انتشار المذاهب الإسلامية ولماذا فشلت مذاهب معينة في الانتشار أو التطور (كالمذهب الظاهري أو مذهب الاوزاعي مثلا) ولماذا نجحت مذاهب أخرى في الانتشار والتطور وتحديدا المذاهب السنية الثلاثة الكبرى: الحنفية والمالكية والشافعية.
كانت خطوة ابن خلدون جريئة قياسا إلى ظروفه وعصره فهو قرأ انتشار المذاهب الإسلامية من خلال رصده للتشابه الجغرافي - الاجتماعي، كذلك قرأ عدم الانتشار للأسباب نفسها وهي اختلاف البيئات الجغرافية - الاجتماعية (العمرانية).
وبعيدا عن صحة استنتاجات ابن خلدون في مقدمته فإنه نجح في تأسيس قواعد تاريخية للتفكير تعطي الجانب العمراني (الاجتماعي) دوره في تحليل عوامل الانتشار أو عدمه. فالمذاهب برأيه هي مجموعة اجتهادات في الفروع، وبقدر ما كانت الاجتهادات مناسبة لعمران القطر اخذها الناس وعمل بها القضاة وأهل الحكم. وفي ضوء هذا التحليل العمراني للمذاهب رجح ابن خلدون أسباب انتشار المذهب الشافعي في بلاد الشام ومصر، وأسباب انتشار المذهب المالكي في بلاد المغرب والسودان، وأسباب انتشار المذهب الحنفي في البلدان المسلمة غير العربية في غالبيتها.
برأي ابن خلدون فإن بلدان المغرب العربي (في عصره) متخلفة في تطورها العمراني وهي شديدة التجانس في تركيبها القبلي (البدوي) مع الجزيرة العربية، لذلك مال سكانها إلى مدرسة الحديث وابتعدوا عن مدرسة الرأي. وبرأي صاحب المقدمة أيضا فإن المذهب الشافعي ازدهر في البلدان المتقدمة عمرانيا فمال أهلها إلى الاخذ بالمدرسة التي تجمع بين المدرستين: الحديث والرأي. بينما - وهذا رأي ابن خلدون - ازدهر المذهب الحنفي (أبوحنيفة النعمان) في العالم الإسلامي لأنه يعتمد منهج مدرسة الرأي بسبب اختلاف طبيعة العمران وميل سكان تلك الأقطار إلى التأويل.
ليس بالضرورة ان يكون ابن خلدون أصاب بدقة في تحليله إلا أنه حاول الاجتهاد في تفسير أسباب انتشار المذاهب والعوامل التي ساعدت على تقبل أهل هذا القطر لهذا المذهب ورفضهم لذاك. فابن خلدون في تحليله هذا أسس قراءة جديدة ومختلفة في عصره محاولا من خلاله التقاط مفارقات ومقاربات بين الدين والعمران وكذلك بين العمران والمذاهب.
ربما يكون ابن خلدون ظلم كثيرا المذهب المالكي حين ربط انتشاره بالتخلف العمراني وتشابه بداوته مع بداوة أهل الجزيرة العربية، ولكنه نجح على الاقل في ضبط مقاربة واعية بين الدين والاجتماع البشري. هذه حسنة أولى. والحسنة الثانية التي تحسب لاجتهاد (تفسير) ابن خلدون انه كشف عن وعي علمي لا مجال فيه للتعصب الأعمى الذي لا يرى ولا يسمع ولا يفكر. فابن خلدون من أصول عربية عريقة تنتمي قبيلته إلى حضرموت، وكذلك ولد صاحب المقدمة في أسرة على المذهب المالكي وقطع الشطر الأطول من حياته متجولا في بلدان المغرب العربي قبل ارتحاله إلى القاهرة ليتبوأ هناك منصب قاضي المذهب المالكي. فابن خلدون عربي في جذوره القبلية ومالكي في مذهبه وتربيته وعلومه وفتاويه... وكل هذا لم يمنعه من تقديم تفسيرات اجتماعية (عمرانية) تتعارض مع جذوره ومذهبه. وهذا درس نبيل لكل الباحثين المعاصرين في تاريخ المذاهب وأصولها وفصولها. فعلم العمران برأي ابن خلدون علم محايد لا يعرف المسايرة أو التحايل على الوقائع. وهذه أيضا حسنة ثالثة تضاف إلى عبقرية هذا المؤرخ الفيلسوف الذي لم تعرف المنطقة شبيها له منذ زمن طويل.
ملاحظات ابن خلدون واشاراته في ملاحقة عوامل انتشار المذاهب الإسلامية وظروف نجاحها في مكان وفشلها في مكان آخر ذكية في مدلولاتها النظرية حتى لو لم تكن دقيقة في الإحاطة بكل أسبابها التاريخية وصلتها بالحكام والأمراء والدويلات التي تأسست في تلك البلدان. فالمذهب الاوزاعي مثلا انتشر مع الأمويين في الأندلس في فترة تأسيس دولتهم واضمحل مع انهيار دولة قرطبة. والمذهب الظاهري مثلا انتشر في الأندلس وقاده ابن حزم إلا انه لقي الفشل بعد التحولات التي طرأت على بلاد الأندلس والمغرب. كذلك شهدت الأندلس - المغرب في فترات كثيرة اهتمامات عقائدية بالمذهب الشافعي وفلسفة الغزالي (أبوحامد) إلا ان الصراع العقائدي الذي خاضه ابن حزم ضد الأشعري (الأشعرية) وكذلك الصراع الذي افتتحه ابن رشد الحفيد (القاضي والفيلسوف) ضد الأشعرية وأيضا ضد الغزالي كلها معارك أسهمت في اضعاف إمكانات ازدهار هذا النمط من التفكير بسبب التكتلات المحلية التي نهضت ضد المذاهب الأخرى.
هذه التكتلات السياسية ساعدت لاحقا في تراجع المذاهب الإسلامية الأخرى ولكنها فشلت في محاربة انتشار المدارس الصوفية في الأندلس (ابن عربي مثلا) وبلاد المغرب. ولهذه الأسباب اضطر الامام الشاطبي إلى دعوة علماء عصره إلى عقد قمة فكرية لمناقشة الصوفية ومذاهبها، واختلف آنذاك مع ابن خلدون بسبب عدم دعوته لحضور المؤتمر الفكري العام.
اهمال ابن خلدون العوامل الأخرى (السياسية والعقائدية ودور الأمراء والحكام) لا يعني ان تفسيره لانتشار المذاهب بحسب درجات العمران (الاجتماع البشري) ليس صحيحا. فالتحليل جريء نظريا وغير دقيق تاريخيا ولكنه في النهاية - وهذا هو المهم - فتح أمام العقل مسالك جديدة ومتقدمة للتفكير.
وعموما لا يختلف ابن خلدون (المؤرخ) كثيرا عن هواجس الشاطبي (عالم الدين). فالشاطبي لاحظ ان هناك أزمة في منهج التأصيل في المذهب المالكي فعمد من خلال كتابه «الموافقات» إلى الجمع (أو الدمج) بين مذهب الامام مالك (الحديث) ومذهب الامام ابي حنيفة (الرأي) وتطوير مدرسة الاجتهاد في عصره بإدخاله مبدأ (فكرة) المقاصد في قراءة النص. فالشاطبي احاط بالسنة وكلام المفسرين ومباحث الكلام وأصول المتقدمين وفروع المجتهدين وطرق الخاصة من المتصوفين لإعادة تفسير الكتاب والاستدلال منه في إطار معرفة مقاصد الشرع وسر أحكام الشريعة.
الشاطبي اذا أعاد قراءة المذهب المالكي وطوره في عصره ليخدم الناس آخذا «اختلاف العوائد» في الاعتبار من دون ان يعتبر ان اختلاف المقاصد هو اختلاف في الخطاب الشرعي بل هو مجرد اجتهاد للاجابة عن المصالح المرسلة أو مراعاة المصالح بسبب اختلاف مجرى العوائد. فالشاطبي في النهاية يلتقي مع ابن خلدون من زاوية مختلفة حتى لو اختلفا في الكثير من الزوايا. فالشاطبي القاضي المجتهد رصد الملاحظات نفسها التي التقطها بعده ابن خلدون المؤرخ الفيلسوف.
اختلف المجتهدون كثيرا في تاريخ الاسلام، وكان الاختلاف دائما حسنة للدين ورحمة للمؤمنين... فلنجتهد ونختلف
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 630 - الخميس 27 مايو 2004م الموافق 07 ربيع الثاني 1425هـ