من دون شك، فإن الإجراءات الملكية التي اتخذت في معالجة حوادث يوم الجمعة الماضي، وخصوصا تعيين وزير داخلية جديد (الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة)، وتشكيل لجنة تحقيق في الأسباب التي أدت بقوات الأمن إلى اتخاذ قرار بإطلاق مسيلات الدموع والرصاص المطاطي على آلاف المتظاهرين المحتجين على تدنيس الأماكن المقدسة في العراق، كانت استثنائية وغير مسبوقة، مهما قيل عن أن وزير الداخلية السابق الشيخ محمد بن خليفة آل خليفة كان في حكم المتقاعد.
إن التوقيت له دلائل بالغة لا يمكن تجاهلها، بل إن التجاهل يعني إفراغ التغيير الوزاري هذا من مضمونه السياسي غير المعتاد في بلد محافظ، ظلت وزارته الأولى نحو ثلاثين سنة، واتسم التغيير في العام 1995 بالرجعية على صعيد التعليم والإعلام وحقائب أخرى، فيما احتفظ الوزراء الرئيسيون بحقائبهم، على رغم أن البلد كانت تعيش مأزقا جديا، وكان الناس ينتظرون تغييرا وزاريا يتضمن رسائل إيجابية، لا يؤكد النهج الأمني العقيم.
حتى بعد بدء المشروع الإصلاحي، فإن التغييرات الوزارية ظلت دون مستوى الطموح بكثير، كما هو حال التنصيب عموما الذي تراجع في مواقع شتى، واستند في أحيان كثيرة إلى مفهوم الولاء والمكافأة، ولم يستند إلى الكفاءة (مجلس الشورى نموذجا).
ويمكن التبصر في التغيير الوزاري الذي تم في نوفمبر/ تشرين الثاني 2002، أي بعيد انتخاب مجلس النواب، لإعطاء صورة أكثر تجليا على أن التغييرات الوزارية ظلت في غالب الأحيان أقل من الطموح، على رغم أن البعض يتفهم أن التبدل لا يمكن أن يتناسى اعتبارات المرحلة الانتقالية، والحاجة إلى تفادي الصدمة، التي يمكن أن تنجح ويمكن أن ترتد سلبا. وهو رأي لا يجد صدى عند من كان يرى بأن الدعم الشعبي لمسار الإصلاح، وإن تقهقر أو أصيب بإحباط بعيد التغيير الدستوري في فبراير/ شباط 2002، فإنه مازال في ذلك الوقت وإلى الآن قادرا على انجاح التغييرات الأكثر إقداما، بل إن التغييرات الدستورية المختلف بشأنها، كان يجب أن تعوضها تغييرات راديكالية أو شبه راديكالية على صعيد الأجهزة التنفيذية.
الإشكال أن التغيير الوزاري الذي تم حينها بالغ في المحافظة. وأتذكر أن «الوسط» اختارت عنوانا معبرا حين أعلن التشكيل الحكومي، إذ عنونت «حكومة بلا مفاجآت»، أي حكومة تقليدية الطابع وليست تقدمية. فقد زيد عدد الحقائب إلى اثنين وعشرين، بعكس التوجهات العالمية. وتم فصل قطاع العدل عن وزارة الشئون الإسلامية، وقطاع الصناعة عن وزارة النفط، من دون أي مسوغ منطقي واضح، وخصوصا أنه تم دمج وزارتين كبيرتين، هما الأشغال والإسكان، ما يمكّن المراقب من الاستنتاج بأن الدمج أو الفصل لم يستند إلى بعد موضوعي، بقدر استناده إلى بعد آخر، يرتبط بمفهوم يحتاج إلى إعادة نظر للتنصيب، تمثل في إعطاء مساحة للتوزير لمن يراد توزيره.
في هذه الوزارة التي يراد الانطلاق بها نحو مسيرة أكثر رسوخا في الإصلاح، تم الاحتفاظ بالطاقم الكلاسيكي من الوزراء، وتوزير عدد من الشخصيات كانوا أقل كفاءة مما هو مطلوب، وهذا ما أثبته واقع الحال، بعد نحو سنتين ونصف السنة من عمر الوزارة الجديدة/ القديمة.
تأكيد نهج الاصلاح
كان يمكن للقيادة السياسية اتخاذ إجراءات أخرى وأقل حزما من إجراء تغيير وزاري مفاجئ في وزارة حساسة، ويمكن ذكر كثير من هذه الخطوات، التي كان يمكن أن تسهم على الأرجح في لملمة الوضع ولعق الجراح، وإن لم تحقق الرضا. وسيظل كثيرون يطالبون بمزيد من التصحيح، ربما يأتي وربما لا يأتي، ولا يعرف إن جاء إلى أي مدى هو يغذي مناخات الإصلاح، التي أصبحت قبل نحو أسابيع بحاجة إلى آلة تنفس اصطناعي، جراء حالات الاختناق المتكررة.
إن الإجراء الملكي حاسم هذه المرة وذو سقف مرتفع، إن على مستوى الوزارة التي أجري فيها التغيير، أو على مستوى التوقيت الذي يبدو أكثر العناصر تقدمية في المشهد.
والحقيقة أنه لو اتخذ قرار التغيير في وزارة الداخلية في وقت غير هذا، أي من دون أن يعقب حوادث يوم الجمعة التي افتعلتها قوات الأمن، لما كان له هذا الوقع، ولما استحق صفة الاستثنائي.
ولنتصور أن التغيير قد تم قبل أسابيع متزامنا مع التغيير في وزارة الصحة، وهو أمر كان متداولا على نحو جدي، حينها لا يمكن اعتبار تعيين وزير جديد في الداخلية حدثا يستحق الجدل والنقاش والتساؤل عن أهدافه الحقيقية وما ينطوي عليه من دلالات.
إذا كان هذا التغيير قد أعد له منذ شهور، واستغلت الفرصة السانحة لتمريره، لتأكيد المضي في نهج الإصلاح، والتشويش على من يشكك في ذلك، ولإعادة الثقة التي فقد بعضها، ولكسب جمهور جديد فضلا عن الاحتفاظ بالجمهور الحالي، وللربح على المستوى الداخلي والخارجي، من دون الاضطرار إلى استخدام ورقة أخرى غير جاهزة أو ناضجة للقطف، أو تقديم/ خسارة ورقة إضافية، فهذا يحسب لمن اتخذ القرار لا عليه.
السياسي الناجح هو الذي يرمي «الجوكر» في التوقيت المناسب، لا الذي يبعثر أوراقه، ويستعجل استخدامها. وأحيانا لا يكون الهدف وضع الكرة في المرمى، بقدر ما تكون الطريقة التي توضع بها الكرة، ولماذا هذه الطريقة دون غيرها.
يمكن ملاحظة أن المتشددين على الجانبين الشعبي والرسمي لا يودون ربط الحدثين ببعضهما، وهو موقف تقليدي من جل المسائل، بما في ذلك البرلمان وكيفية التعاطي معه، إذ تنبذه القوى المحافظة في الحكم من الناحية العملية، وتود لو ألحق بالأجهزة التنفيذية، فيما المعارضة المتشددة تعتبره شرا مطلقا، ومن يشارك فيه خائنا.
ويمتد هذا الموقف إلى مفهوم الإصلاح ذاته، فالحكومي المتشدد يرى فيما يجري منذ 2001 تطويرا لتجربة بدأت منذ عقود، فيما المعارض المتشدد يرى فيما يحدث ضحكا على الذقون.
هذان الجناحان قد يسببان بعض الإرباك لجهود الإصلاح، لكنهما أيضا يحفزان الرؤى المعتدلة، وهي الأكثر انتشارا، وإن لم تنجح في التعبير عن نفسها كثيرا إن على مستوى الحكم أو على مستوى المعارضة، على أهمية التصالح والتحالف في وجه القوى التي تحاول أن ترى الوضع على أبيض أو أسود.
رسالة مهمة
يحمل الإجراء الملكي رسالة بالغة الأهمية إلى وزارة الداخلية التي توجه إليها الانتقادات في معالجتها حوادث التسعينات وما قبلها من نشاط سياسي. وكثيرا ما يتردد أنها قادت عمليات القمع طوال عقود، وأن فعلها قوبل بالارتياح من طرف السلطة السياسية حينها، ورُقّي رجالاتها في أحوال كثيرة بناء على تصديهم غير الإنساني لمطالب سياسية اعتبرتها الحكومة غير مقبولة، ما برر حالات القمع، وأنتجت الساحة السياسية والإعلامية منظرين للعنف الحكومي.
والرسالة التي يوجهها الملك حاسمة هنا. وهي تضع حدا ربما للتخوفات من أن تستغل حوادث العنف التي جرت في اِلأشهر الماضية، لتطبيق قوانين حادة للتضييق على الحريات.
كما تشدد الإجراءات الملكية على أنه لا يجوز، بأي حال من الأحوال، ولأية غاية كانت، انتهاك حقوق المواطنين، ومنعهم من التعبير السلمي عن رؤاهم التي قد تكون صحيحة وقد لا تكون، فبمزيد من الديمقراطية يمكن علاج سلبيات الديمقراطية.
والأمل ألا يكون ذلك الخلط مجالا للنقاش على نحو يخل بثوابت الحرية، وألا نجد من يبرر ممارسة القمع بدعوى حفظ الأمن. فمعادلة كهذه يجب أن تسقط كليا وإلى الأبد من الحياة السياسية، وهو ما يؤكده الخطاب الملكي. كما يجب أن تسقط كليا وإلى الأبد كل مبررات للعنف من طرف أي تجمع شعبي، وهو ما يؤكده قادة الجمعيات السياسية باستمرار.
إن النضال الشعبي السلمي الملتزم بضوابط القانون، في قبال التزام السلطات بالقانون، هو الأساس الذي يجب أن يستند إليه في التدافع السياسي.
تركة ثقيلة
من الإنصاف القول بأن وزارة الداخلية بذلت خلال السنوات الأخيرة جهودا كبيرة، بما لا يقاس بأية وزارة أخرى، لتلبي متطلبات الإصلاح وشروطه. وقد نجحت في ذلك في بعض الأمور، وأخفقت في أخرى، مع الإدراك بأن هذه المتطلبات غير سهلة، وتزداد صعوبتها بالنظر إلى التركة الثقيلة، وحجم العاملين في الوزارة، وفي أن هذه التصحيحات تجري في مؤسسة عسكرية، محافظة الطابع، وكل شيء يعتبر فيها سريا، وإن كان لا يستحق ذلك.
وكان لوكيل الوزارة الشيخ دعيج بن خليفة آل خليفة دور مؤثر في الصورة التي بدت تتحسن عن الوزارة، والشيخ دعيج هو ربما من القلائل من بين العسكريين والمسئولين الذين يمكن للصحافيين الاتصال بهم والاطلاع من خلالهم على آخر التطورات. وكثيرا جدا ما يدلي بتصريحات عبر الهاتف، فضلا عن توضيحه لصورة قد لا يؤيد نشرها لأسباب مهنية تتفهمها الصحافة عادة. علما بأنه من المتعذر في غالب الأحيان أن يتمكن الصحافي من التحدث مع مسئولين آخرين أقل رتبة من الشيخ دعيج. (ذلك ينطبق على وزارات ومؤسسات أخرى تظهر نفسها وكأنها عصية على الصحافة والرأي العام الذي تدعي العمل من أجله، ولكنها لا تحبذ التواصل معه).
الأمل كبير أن يتعزز النفس الإصلاحي في المؤسسة الأمنية بعد التعيين الجديد لشخصية ذات دم جديد.
ويقود ذلك إلى القول بأنه من دون وجود خطة ورؤية للتطوير، ومن دون متابعة ومراقبة وتحفيز، فإن التصحيح لن يتم بمجرد الرغبة في فعله.
رسائل اخرى
إلى ذلك فإن رسائل أخرى تضمنها الإجراء الملكي، موجهة إلى الحكومة، والقيادات العلمائية، والمعارضة، والرأي العام. ويمكن الجزم منذ الآن بأن قطاعات عدة لن تكون بمستوى الدلالات التي عبر عنها التغيير في الداخلية. والسؤال هنا، هل يكون ما جرى في الداخلية إجراء يستمر ويترسخ ليتحول إلى عرف؟ وهل يقتدي الوزراء بقائدهم؟ وهل يستقيلوا من تلقاء أنفسهم إذا أخطأوا أو لم ينجحوا في السياسات التي أملوا تحقيقها؟ وهل تدرك قوى المعارضة الحرص البين في خطاب القصر على التواصل معها؟ وهل ستبادله النفس الطويل إذا اختلف معها في تقدير الأولويات؟ إذا جاز لي أن أشكك فسأفعل، بناء على الدرس الذي علمنا إياه الناشطون في ساحة العمل الرسمي والمعارض. فقد أثبت القصر مرارا على أنه الأكثر تقدمية
العدد 628 - الثلثاء 25 مايو 2004م الموافق 05 ربيع الثاني 1425هـ