تصادفت نتائج الجولة الرابعة من الانتخابات البلدية في لبنان مع الذكرى الرابعة لتحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي. وجاءت النتائج البلدية لتعطي حزب الله حقه السياسي. فالحزب لعب دورا مركزيا في توجيه الضربات العسكرية لمواقع الاحتلال الصهيوني. وفرضت المواجهات اليومية على «إسرائيل» إعادة النظر في احتلالها لبلد اعتبرته ساحة سهلة للابتلاع وإذ به يتحول إلى شوكة تقض مضاجعها وتؤرقها ليل نهار. فلبنان كان عكس ما تصورته الدراسات الاستراتيجية الصهيونية، فنقاط ضعفه تتحول في اللحظات الحاسمة إلى نقاط قوة.
لعبت عوامل كثيرة في كسر شوكة الاحتلال وساعدت لبنان لاحقا على مراكمة قوته ودفعته رويدا إلى استعادة ما خسره وتكبيد «إسرائيل» كلفة يومية لم تعد قادرة على تحملها بعد 18 عاما على اجتياح 1982.
العوامل المساعدة كثيرة منها وجود مظلة دولية تجسدت في القرار 425 الذي ينص على انسحاب «إسرائيل» من لبنان من دون قيد أو شرط، ومنها توافر سلسلة ظروف إقليمية أسهمت في تمكين المقاومة من تطوير أدواتها. ويضاف إلى العاملين الدولي والإقليمي نضوج وعي لبناني مشترك يحدد سلم أولويات أعطى أهمية قصوى لضرورة إخراج قوات «إسرائيل» من البلاد ومنعها من التلاعب بأوضاعه الداخلية أو اللعب على التعارضات المذهبية والطائفية.
ولا شك في أن الدور الخاص الذي لعبته الدولة قطع الطريق على كل التكتيكات الصهيونية وأسقط عنها مختلف الذرائع فوجدت «إسرائيل» نفسها أمام جبهة داخلية متراصة تحميها الدولة من كل الضغوط والتهديدات.
مجموع العوامل تلك شكل الإطار الموضوعي لشروط المعركة مع «إسرائيل» وأعطى زخما خاصا للعامل الذاتي وأسهم في بلورة قوة الإرادة التي نجح حزب الله في صوغها مجددا بإطار تنظيمي خاص أدار خلالها المعركة العسكرية بكفاءة قتالية عالية.
ما حصل في لبنان ليس حدثا بسيطا إذا نُظر إليه من خلال الشروط الدولية والإقليمية والمحلية وأخيرا الذاتية (إرادة القتال والتصميم على التحرير) التي اشتغل عليها حزب الله جاعلا منها هدفا برأسه. فالقوة المعززة بالإرادة والمدعومة بالروح العقائدية - الاستشهادية ووضوح الهدف كلها عوامل ذاتية لا غنى عنها لتطويع الظروف الموضوعية والاستفادة منها لتحقيق الهدف.
وحين تحقق الهدف المبدئي طرح السؤال: ماذا بعد؟ استعجلت آنذاك «إسرائيل» وأجابت نيابة عن الحزب، فقال الكثير من مسئوليها «ان خزب (حزب) الله انتهى. فالخزب (الحزب) فقد وظيفته ولم يعد له مبررا للاستمرار».
أخطأت «إسرائيل» ثانية. فالحزب نجح منذ لحظة التحرير في البناء على انجازه الوطني وتطويره نحو المزيد من المشاغل ذات الصلة بالحياة المدنية والمعيشية للناس. لم يتردد قادة الحزب في تأكيد دوره اللبناني واستعداده للتكيف ضمن شروط واقع بلد شديد التعقيد في جغرافيته الطبيعية والسكانية. فلبنان بلد المرتفعات والجبال والوديان والسهول الداخلية والبحرية وهو كذلك بلد يضج بالتنوع والتفاوت والاختلاف في تركيبه الاجتماعي وتوازنه الطائفي والمذهبي. وصعوبة العمل السياسي في بلد يشتمل على كل هذه التعقيدات لا تعني التهرب من المسئولية وعدم الاستجابة للتحدي. وهكذا كان.
حزب الله اليوم لم يتراجع عن مواقفه المبدئية، ولكنه في الآن لم يجعل من تلك المبادئ عوائق سياسية تقف أمام تقدمه وتكيفه مع شروط لا تتناسب كثيرا مع ايديولوجيته. فالقدرة على التكيف من دون التنازل عن القراءة المبدئية مسألة تدل على كفاءة ذاتية وقدرة على تطويع الإرادة وجعلها خاضعة للأهداف المحددة. فالحزب لم يتردد في فترة التحرير عن خوض غمار المعارك الانتخابية على مستوى البلديات والمخاتير ولم يدر ظهره للعبة السياسية ويقاطع الانتخابات بذريعة ان النظام البرلماني لا ينسجم كثيرا مع تفكيره أو خصوصيات ايديولوجيته.
اعتبر الحزب ان السياسة هي في تطوير العلاقات مع الناس وفي التحكم بالإرادة وانتاج «تسوية تاريخية» قادرة على التكيف مع الواقع والبناء العقلاني على النتائج المتحولة على الأرض. وخاض الحزب كل المعارك الانتخابية مستندا على نظرية الحق بتمثيل جماهيره، وحق جماهيره في قول كلمتها بالوسائل السلمية. وهكذا طور علاقاته بالناس من خلال الدفاع عن قضاياهم وحقوقهم من دون تمييز بين المناطق والمذاهب والطوائف، كذلك طور صورته الحسنة من خلال الأنشطة التي أقامها للناس في مختلف الأحياء والقرى.
حزب الله تحول الآن إلى رافعة مركزية في الحياة السياسية اللبنانية. فالناس وخصوصا في مناطقه أعطته ثقتها (أصواتها) بعد ان قدم لها الكثير من الخدمات الاجتماعية حتى قبل التحرير.
أمس تصادفت نتائج الانتخابات البلدية مع الذكرى الرابعة للتحرير وجاءت الأرقام لتؤكد الواقع فأعطته الناس أصواتها ردا على ثقته بها وعدم تركه لها لتضيع حقوقها في صناديق الاقتراع لمصلحة أطراف لا يحق لها تمثيلها
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 628 - الثلثاء 25 مايو 2004م الموافق 05 ربيع الثاني 1425هـ