العدد 627 - الإثنين 24 مايو 2004م الموافق 04 ربيع الثاني 1425هـ

شاهد سعودي على العصر!

«الهروب من جهنم الحمراء

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قبل عشرين عاما، كان من بين ضحايا حملة الاعتقالات التي تعرض لها بعض أبناء الحركة الاسلامية في البحرين، أحد المواطنين السعوديين، إذ كان في زيارة لأخته المتزوجة من أحد المواطنين في إحدى قرى البحرين. عندما جاءت قوات الأمن لاعتقال بعض أبناء القرية، كان صاحبنا من بين الصيد الثمين. ولم يكن طبعا من الممكن إثبات براءته، فمن يقع في مصيدة «أمن الدولة» مجرم يستحق القتل أو التعذيب حتى تثبت براءته! فضلا عن عدم وجود من تتفاهم معه بلغتك العربية الفصحى أو حتى العامية. والنتيجة دخل صاحبنا «السعودي» سجن البحرين من بابه الأوسع ليكون شاهدا على ذلك العصر!

في المعتقل تعرّض طبعا للضرب والتعليق والحرمان من النوم والطعام وتعصيب العينين لعدة أيام أسوة بالمواطنين البحرينيين الآخرين، في أفضل صور المساواة بين مواطني مجلس التعاون. وكلما حاول أن يتفاهم مع المحقّقين أو يدافع عن نفسه، لم يجد غير الشتائم واللطمات الحمراء على وجهه.

المعتقلون البحرينيون رأفوا بحاله فأجمعوا على انه غريب عنهم وليس لهم أدنى صلة به، عندها طلبه أحد المحققين ليستمع إلى أقواله لأول مرة بعد أسبوع من التعذيب. وحين اطمأن إلى كلامه طلب له بعض الطعام وقدمه إليه، فرفض الشاب السعودي الواجم الغضبان أن يمسه، وطالب بجوازه ليخرج مباشرة إلى «الفرضة» أو المطار. حاول المحقق تهدئته وطلب له ثوبا ليستبدل به ثوبه الممزق المتسخ فأبى أن يلبسه. أحضر له نعالا فأبى أن ينتعله وهو مازال واجما. كان الشرر يتطاير من عينيه وهو يصرّ على تسلم الجواز والخروج مباشرة إلى المطار. عندما أُحضر له الجواز الأخضر حمله بين يديه وانفجر غاضبا في وجه المحقق: «لعنة الله على من يزور هذا البلد، لعنة الله عليّ يوم فكرت في المجيء إلى البحرين. هكذا تعاملون أبناء بلدكم؟ والله لو أموت وحياتي تكون في البحرين لما جئت إليها مرة أخرى. هذه ليست بلدا، هذه جهنم الحمراء». وخرج من بوابة السجن فيما وقف المحقق وقد صعقته الكلمات المتفجرة التي لم يعتد سماعها من ضحاياه المواطنين.

هذه القصة راودتني وأنا أتأمل حوادث عصر الجمعة الماضية، بعد أن رمت قوات الأمن في بلادنا المسيرة السلمية في نصرة العراق المحتل بالغازات المسيلة للدموع والرصاص المطاطي. فعند مفرق طرق شارع الملك فيصل، كانت الشوارع مزدحمة بالسيارات، على جميع المسارات. هنا نتحدث عن مئات السيارات الممتدة على طول ثلاثة كيلومترات. لو دققت قليلا لرأيت ثلثها على الأقل يعود إلى مواطنين خليجيين، غالبيتهم من السعودية الشقيقة. تراهم عائدين عصر الجمعة إلى بلادهم بعد ان قضوا يوما أو يومين في ضيافة البحرين التي يحبونها. على هذا الشارع أجبر هؤلاء على مشاهدة فيلم لم يحلموا بمشاهدته إلا في الفضائيات وهي تغطي وضع العراق أو غزة: سيارات الشرطة تطلق أبواقها وكأنها في حال طوارئ، عشرات من رجال الشرطة يركضون قادمين من ناحية دوار اللؤلؤة باتجاه الشرق. سيارة باص متوسطة ينزل منها الشرطة إلى الرصيف وهم بكامل أسلحتهم وبزاتهم العسكرية، بعضهم تمدد على عشب الرصيف من فرط الانهاك والتعب وكأنه قطع المسافة من دوار عوالي. شرطة المرور كانت أغلقت الشارع القادم من المحرق والمؤدي إلى الكورنيش ومنطقة السيف، ثلاثة من رجال المرور كانوا يحثون السواق على الرجوع من حيث أتوا، أو تغيير مساراتهم، وبعضهم لم يتوان عن نهرهم والصراخ في وجوههم.

وسط هذه «الدربكة» أفلحت قوات الأمن في تقديم هدية غير مألوفة في دول الخليج الأخرى: «رائحة مسيل الدموع» التي لم يعتد عليها جيراننا الخليجيون لحسن حظهم. مئات العوائل والأسر الخليجية التي جاءت إلى البحرين لتشمّ الهواء أهديناها رائحة الغازات السامة بدل العنبر والبخور. بعد هذا يأتي الغضنفر لينظّر لشعب البحرين من فوق خازوقه عن الوصايا العشر، التي يجب أن تنظم المسيرات السلمية، ويصل إلى ذروة التجلي الروحي بالنصح بالابتعاد عن المراكز التجارية لكي لا تؤثر على التنمية الاقتصادية، واختيار الصحارى والقفار للتظاهر ضد الاميركان واحتلالهم العراق وتعذيب أبنائه!

عشرون عاما... بين خروج الشاب السعودي بجوازه إلى المطار هاربا... وبين خروج مئات العوائل الخليجية الجمعة الماضي من مشاهدة الفيلم البحريني البديع: «مسيلات الدموع»... هل نستوعب الدرس؟

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 627 - الإثنين 24 مايو 2004م الموافق 04 ربيع الثاني 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً