عند الساعة 11 من مساء الجمعة، اتصل الزميل محمد العثمان مستفسرا: هل حدث شيء اليوم؟ سمعنا ان الشيخ عيسى قاسم أصيب. فأجبته منفجرا: ماذا أقول لك؟ أمرٌ مؤسفٌ يا أخي أن يتم التعامل مع الناس بهذه الصورة، وكأنهم حيوانات وبهائم. ثم ماذا تتوقع من رجل كبير السن مثل الشيخ عيسى يتعرض إلى مسيل الدموع. وهناك جرحى بلغوا العشرين. أحدهم قال إنه لم ير الشيخ علي سلمان، هذا الرجل الهادئ العقلاني، غاضبا مثلما رآه أمس. استخدموا الرصاص المطاطي أيضا، هل نحتاج إلى هذه الضجة لكي لا تبقى قناة فضائية إلا وتكرر أن شرطة البحرين قمعت مسيرة شعبية ضد جرائم الاميركان في العراق؟ هل هذا في مصلحة البحرين؟ هل هذا في مصلحة الاصلاح؟ هل هذا سيجذب الاستثمارات ويعزز وضع الاقتصاد؟ وكان التعليق الوحيد للزميل: «رب ضارة نافعة» يا أخي.
أما أنا فأخذت أفكّر في سياق مختلف، إذ في غمرة الاحساس بالغضب والمهانة أخذت استذكر ما جرى في الثمانينات من حوادث، بعد انتصار الثورة الاسلامية في إيران، وما قادته من تفاعلات، بدأت بمظاهرات تأييد شعبية لثورة الامام الخميني، وانتهت باحتكاكات بين السلطات الأمنية والحركة الاسلامية انتهت بالسجون. وخشيت أن تُعاد الكرّة مرة أخرى، والآن من باب العراق وما يجري على ساحته من تطاحنٍ واحتكاكٍ بين مكونات الشعب الشقيق، يريد البعض جرّنا من جديد إلى دفع ثمنه هنا مرة أخرى، من أرواح المواطنين وحرية المواطن، ومستقبل ومصلحة الوطن.
حوادث مريرة عشناها، ومازالت حية في الأذهان إلى الآن. تذهب إلى المنامة في موسم عاشوراء لتجري تحقيقا صحافيا عن تاريخ مواكب العزاء أو خطباء المنبر الحسيني القدامى، بعد أن أصبحت جزءا من تاريخ الوطن، يحدّثك الناس بأسى عن فترات كانوا يستمعون فيها الى الخطيب ومسيلات الدموع تملأ الأجواء وتتساقط عند أبواب المآتم. يكلمونك عن سنوات ملاحقة الرادود الذي كان يرفع شعارات ضد صدام حسين أيام مجده مطلع الثمانينات، حين كان يريد جمع كل الدول العربية تحت عباءته مثل علب الفاصوليا. فهل كان أصحاب هذه «العلقة» يطمحون إلى إعادة أجواء الشحن والتصعيد مبكرا حتى تنتهي المسألة بخراب البصرة؟ وهكذا سيطرت هذه الأفكار على عقلي حتى وصلتني رسالة هاتفية عن تغيير وزير الداخلية، فتذكرت كلمة العثمان: «رب ضارة نافعة»، فعدت لأتصل به بعد منتصف الليل لأكمل الحديث.
كانت الطرقات خالية، والهدوء يخيّم على هذه القرية الوادعة، فأخذت أحدّثه عن تفاصيل الجمعة الحزينة والأطفال الذين تساقطوا في الخندق، وأضفت: أنا الآن واقفٌ أمام مجموعة من البيوت المتلاصقة، مرّت على أهلها أيامٌ خلت فيها من الشبان تماما، فلا تجد فيها غير الآباء والامهات. فهل يريد البعض إعادتنا إلى تلك الحقبة السوداء؟ ماذا لو تركوهم اليوم يكملون دورتهم ويعودون قبيل أذان المغرب ليؤدوا الصلاة في المساجد؟
إحدى نساء العائلة كبيرات السن اتصلت عصر الجمعة تحذّرني من الاقتراب من مجمع السيف «لأنهم ضربوا مسيرة العلماء وأخذوا بإطلاق مسيلات الدموع والرصاص المطاطي، فلا تروح يا ولدي». ولكن نصيحتها شجّعتني على الذهاب. فحاولت الدخول من ناحية القفول فإذا الطرق مسدودة. وحاولت مرة أخرى من شارع الملك فيصل من جهة «الفرضة»، وإذا بالسيارات القادمة من المحرق تجبر على أن تعود أدراجها. وبالقرب من دار الحكومة كانت هناك سيارات للشرطة ومجموعة من رجال الشرطة بعضهم ممدد على عشب الرصيف، وبعضهم يغسل وجهه بالماء وقد بدا عليهم التعب والارهاق الشديد.
تساءلت بيني وبين نفسي: ما الداعي لكل هذا؟ دعوا اسراب الحمام تمر، فما جاءت إلاّ احتجاجا على جرائم الاميركيين ضد أبناء العراق. لم تذكر أحدا بسوء، لم تتكلم عن البطالة أو قضايا التجنيس أو غيرها من هموم الوطن كلها، تسامت عليها جميعا لتلتحم مع قضية العراق المستباح، أمثل هذا الشعب المتحضر يستحق المعاملة كما تعامل القطعان؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 625 - السبت 22 مايو 2004م الموافق 02 ربيع الثاني 1425هـ