العدد 624 - الجمعة 21 مايو 2004م الموافق 01 ربيع الثاني 1425هـ

الامتناع... بداية تفكير

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

للمرة الأولى منذ أربع سنوات تقريبا لا تستخدم الإدارة الأميركية حق النقض ضد قرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي بشأن المسألة الفلسطينية. فواشنطن امتنعت عن التصويت لتمرير قرار يدين أعمال «إسرائيل» في قطاع غزة. القرار ضعيف كنص ولكنه يفي بالحاجة إلى توجيه رسالة سياسية إلى رئيس الحكومة الإسرائيلي ارييل شارون. فأهمية النص في إشاراته السياسية التي أجمعت الدول الكبرى على ضرورة الاتفاق عليها بهدف وضع حد للممارسات التي ينتهجها الاحتلال وفاقت حدود المنطق.

السياسة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية منذ احتلالها في العام 1967 ليست جديدة. فكل حكومات الاحتلال لجأت إلى أساليب الاحتيال على القرارات الدولية متبعة تكتيكات الخداع المبرمج وفق خطة طويلة المدى تهدف في النهاية إلى «تهويد» الضفة والقطاع، واقتلاع أو محاصرة الفلسطينيين في مناطق معزولة تمنع في المستقبل قيام دولة «قابلة للحياة».

السياسة الاحتلالية - الاستيطانية ليست جديدة فهذه تعتبر من تقاليد «إسرائيل» في السيطرة والاحتيال والخداع والمناورة. الجديد فعلا هو امتناع إدارة جورج بوش عن استخدام «الفيتو» الأميركي في وقت يراهن البيت الأبيض على دعم اللوبي اليهودي في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

هناك «سر» في المسألة وهو في أقل الحالات يثير أسئلة عن الموضوع. فقبل أسابيع وعد بوش شارون في رسالة خطية بعدم الضغط على «إسرائيل» للانسحاب. وقبل أيام ألقى بوش خطابا في منظمة «ايباك» التي تعتبر أقوى جهاز ضغط مؤيد للصهيونية في الولايات المتحدة جدد فيه التزام واشنطن بمسئولية الدفاع عن «إسرائيل» وتعزيز أمنها والدفاع عنها في المحافل الدولية. فماذا حصل حتى تمتنع إدارة بوش عن نقض قرار دولي يدين الممارسات ضد المدنيين في رفح (قطاع غزة)؟

الجواب يتطلب بعض التواضع في توضيح الأسباب، لأن المبالغة تؤدي إلى قراءة خاطئة وتعطي تفسيرات هي أقرب إلى الاستنتاجات والتخمينات منها إلى الوقائع.

عناصر الجواب يجب أن تبنى على عوامل موضوعية هي أقرب إلى حاجات واشنطن وظروفها الصعبة بعد فشل البيت الأبيض في تحقيق أهدافه من سياسة الهجوم العسكرية في أفغانستان والعراق. بوش فاز عسكريا في الحربين ولكنه لم يربح سياسيا. فحتى الآن كل المؤشرات تدل على وجود خلل بنيوي في الاستراتيجية الأميركية. وهذا الخلل إذا اتسعت فجوته ازدادت احتمالات انكسار المخططات التي اخترعتها «البنتاغون» وربما أدت إلى انهيار مكانة واشنطن في «الشرق الأوسط» وتراجع نفوذها التقليدي وسمعتها الدولية.

بوش إذا في وضع صعب واستراتيجية على قاب قوسين من الانهيار الشامل في حال اصر على الاستمرار في السياسة العامة التي قادها منذ ثلاث سنوات وبات اليوم أسير نتائجها. فالمهم في النهاية النتائج وكل الطرقات تشير إلى وجود ازمة كبرى ستدخل فيها واشنطن إذا لم تتدارك بعض الأمور، وتحسن صورتها من خلال إعادة ضبط علاقاتها مع الدول الكبرى وتجديد معنى الاحترام المتبادل وتوازن المصالح مع أوروبا وآسيا أو مع الدول العربية والإسلامية.

الامتناع عن التصويت في اجتماع مجلس الأمن الأخير له أسبابه الداخلية (تهافت النهج الهجومي) وأسبابه الخارجية (ترتيب توازن العلاقات مع الدول الكبرى قبل انعقاد قمة الثماني في جورجيا). والامتناع عن التصويت سبقته سلسلة خطوات صغيرة من نوع رسالة بوش إلى العاهل الأردني، وتأجيل شارون زيارته لواشنطن، ولقاء كولن باول بأحمد قريع في الأردن، وأخيرا لقاء قريع بمستشارة الرئيس الأميركي كوندليزا رايس في برلين.

كل هذه الخطوات الصغيرة سبقت خطوة الامتناع عن التصويت في مجلس الأمن، وهي في مجموعها لا تساوي شيئا أمام حجم الدعم الهائل الذي تقدمه واشنطن بالمجان ومن دون مقابل سياسي لرئيس وزراء أرعن يدعى شارون.

إلا أن الخطوات على ضعفها تؤشر إلى وجود ارتباك سياسي في الإدارة الأميركي وتفاقم الخلاف بين وزير الخارجية ووزير الدفاع. وهذا الارتباك يمكن ملاحظته من خلال ترددات تصريحات بوش الصوتية، فمرة يكون مع باول ومرة رامسفيلد. ورايس (مستشارة الرئيس) هي المعبر الحقيقي عن تفكير بوش. فهي التي كلفها الرئيس بالذهاب إلى موسكو ولقاء الرئيس الروسي وهي التي نقلت رسالته إلى قريع. فهذه إشارات رمزية إلى بداية اختلاف في ذبذبات الصوت.

امتناع واشنطن عن التصويت ليس انقلابا في الاستراتيجية الأميركية وانما محاولة متأخرة لاستدراك تداعيات سياسة البيت الأبيض في أفغانستان والعراق وفلسطين. أنها بداية تفكير. فالمحاولة بسيطة وجزئية ولكنها كافية للاشارة إلى وجود ارتباك في الإدارة الأميركية قبل يومين من انعقاد القمة العربية في تونس وقبل أقل من ستة أسابيع من إعادة انتشار القوات في العراق، وثلاثة أسابيع من لقاء الدول الثماني في مدينة سي آيلاند. بوش يبدو أنه دخل فترة تأمل وقرر أن يفكر. والتفكير ليس عيبا

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 624 - الجمعة 21 مايو 2004م الموافق 01 ربيع الثاني 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً