انتقل المؤتمر السنوي الثالث للمنظمة العربية لحرية الصحافة بين الثالث والسادس من شهر مايو / أيار الجاري إلى الدار البيضاء بعد أن كان مقررا عقده في الرباط، ولهذه النقلة حكاية تدخل في دائرة الضغط العربي لعزله، أو إبعاد الأنظار عنه؛ كون شعاره: «تحرير الإعلام من تدخل الدولة في العالم العربي» يبدو «مستفزا» للكثيرين من العرب، فتطوعت ثلاث دول عربية، وربما أكثر، بممارسة الضغط على المغرب لعرقلة عقده بعد الموافقة على استضافته؛ لكنه انعقد على رغم كل العقبات التي وضعت أمامه، والعصي التي وضعت في عجلاته، في موعده المحدد على رغم تغيير مكانه من الرباط إلى كازابلانكا!
إذا، انعقد المؤتمر بعيدا عن العاصمة المغربية، بعيدا عن الأضواء وبعيدا عن سكن وفوده وضيوفه عربا وأجانب، فعانوا مشقة الانتقال من ضواحي الدار البيضاء إلى مركزها.
جاء الصحافيون العرب المقاتلون بالكلمة من أجل حرية التعبير والرأي، والمدافعون بقوة عن الإصلاحات السياسية والتصالح مع قيم العصر والديمقراطية، والمشجعون للحركات الدستورية في الأنظمة العربية ذات الاتجاهات المختلفة (جمهوريات ومملكات) بأهداف محددة وواضحة تسبح مع تيار التحوّل الديمقراطي الذي يجتاح العالم برفض الوضع القائم في المجال الإعلامي في العالم العربي، الذي يتسم بالتخلف عن التحولات السياسية والتكنولوجية التي تعم العالم من حولنا.
جاء هؤلاء الصحافيون ومعهم مراقبون من 18 مؤسسة عربية وغير عربية، مهنية وحقوقية؛ حاملين معهم ملفات ساخنة للانتهاكات التي يتعرض لها الصحافيون العرب وتقيّد حريتهم وحرية مواطنيهم وصولا إلى المناشدة السريعة بإلغاء عقوبة الحبس ضد الصحافيين، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات وإصدار الصحف والتهيئة لإدانة التدخل من قبل وزارات الإعلام أو إلغاء هذه الوزارات لاحترام الاستقلالية، ومن ثم كشف الأنظمة الشمولية على حقيقتها وطرق تحايلها لشراء الذمم وما إلى ذلك، لما تقوم به من تسويق خارجي لقشور الديمقراطية على اعتبارها نهجا عربيا أصيلا في عالمنا العربي، في حين يعرف الداني والبعيد أن هذه الأمور كذبة كبرى لا يمكن تصديقها حتى لو تم «بلعنتها» بحسب الناشطة الحقوقية التونسية سهام بن سدرين؛ أي الأخذ بالنموذج التونسي للرئيس بن علي وإبداعه في التحايل على معارضيه.
لقد أنهى مؤتمر المنظمة العربية لحرية الصحافة أعماله، ونشر المؤتمرون غسيل أنظمتهم التي تنتهك صباح مساء حرية التعبير وتلغي الرأي الآخر، وتقمع الحريات العامة، مثمنين الايجابي لكل خطوة إصلاحية في أي بلد عربي، ومنتقدين بشدة السلبيات والمثالب عبر أوراق عملهم ومداخلاتهم الغنية والعقلانية.
الواضح أن بعض البلدان العربية حررت إعلامها المقروء وتكافح لتحرير القطاع السمعي والبصري؛ كما هو حاصل في المغرب والجزائر، أما البعض العربي الآخر وهو ما يشكل الغالبية العظمى، فيناضل من أجل رفع الهيمنة الحكومية على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة وتحرير المواقع الإلكترونية التي تتعرض للتخريب والتوقيف والمحاسبة بقوانين تضيّق الحريات بدل رفع سقوفها ضمن مقاسات العصر.
أعطى رئيس تحرير صحيفة «الخبر» الجزائرية علي الجري معادلة «لحرية الصحافة» في بلاده بالقول: «الصحافة تكتب ما تريد والحكومة تفعل ما تريد!»، فعلقت الزميلة مها الصالحي بعد أن ضجت القاعة بالقهقهات: «نحسدكم أيها الجزائريون على هذه العطية السخية لأنكم تكتبون ما تشاءون؛ أما المعادلة عندنا فهي: إن الحكومة عندنا تفعل ما تريد والصحافة تكتب ما تريده الحكومة!».
ومن سخرية حال الصحافة العربية أن علي الجري يداوم بالمحاكم الجزائرية أكثر من إشرافه على تحرير صحيفة «الخبر»، إذ تم تسجيل 68 قضية ضده في المحاكم الجزائرية تتعلق بالنشر، وهو يكافح مع زملائه الصحافيين من أجل تحرير الإعلام البصري والسمعي من احتكار الحكومة لهذه الوسائل الإعلامية الخطيرة لما لها من تأثير على المشاهد والمستمع العربي، وخصوصا أن الأمة العربية نصفها أمي.
لم تغفل المنظمة العربية لحرية الصحافة تدارس أوضاع الصحافيين في مناطق النزاع والحروب وخصوصا في العراق وفلسطين، غير أنه من المفارقات العجيبة أن أوضاع الحريات الصحافية في هذين البلدين المحتلين أحسن حالا من نظيراتها العربيات. ففي «إسرائيل» مثلا، هناك عدة أنواع من الصحف: صحف حزبية لا تزيد على 11 صحيفة، سبع منها عربية، وصحف متعلقة بموضوعات عينية متخصصة مثل: صحيفتان للمرأة، صحيفة متخصصة بالملابس أو البيوت والحدائق وغيرها.
أما الصحافة التجارية، فهي تشكل الغالبية الساحقة والتي تعتبر ذات تأثير على الجمهور مثل: «يديعوت احرونوت» و«معاريف» و«هآرتس» التي تعتبر مؤسسة عملاقة تصدر منها عدة صحف وتملكها ثلاث عائلات احتكارية، وهذه تزعج بلاشك الصحافيين، لكن هذه الصحف هي الأكبر ويعمل فيها ما لا يقل عن 70 في المئة من العاملين في مجال الصحافة ولها تأثير كبير على المجتمع وسياسة الحكومة وتصرفاتها، ولهذا فإن الحكومة تحسب حسابها وتنافقها. ومع أنه في عدة قضايا يلاحظ وجود تحالف بين الحكومة ورؤساء التحرير في حالات معينة مثل الحرب، إلا أن المميّز للعلاقة هو أن الصحافة حرة، مستقلة، مكافحة وقلما تخشى مجابهة الحكومة.
رأي فلسطيني
يقول الكاتب الصحافي نظير مجلي في ورقة عمل مقدمة إلى مؤتمر المنظمة العربية لحرية الصحافة في مايو/ أيار 2002 عن الصحافة الفلسطينية في «إسرائيل»: «تحاول الصحف الحزبية الفلسطينية اقتداء النموذج العربي الشرقي في العمل الصحافي؛ فهي مثلها غير ديمقراطية، أما الصحف التجارية فتحاول اقتداء النموذج الإسرائيلي، فالأساسية منها تمتلكها عائلات فلسطينية، وتحاول نشر المقابلات مع مختلف المسئولين والأحزاب والشخصيات من كل الأطراف والأطياف عربية ويهودية، من «إسرائيل» وفلسطين والعالم العربي».
لكن هذه الصحف غير ثرية اقتصاديا، بعضها تهمل عنصر العمل المهني، وجميعها بعيدة جدا عن صحافة التحقيق الصحافي الخاص والخبر السبق، على رغم أنها تتمتع بحيّز واسع جدا من الديمقراطيـــــــة حاليــــــا، فإنها لا تستغله بالشكل الكافي، وأحد الانتقادات القاسية عليها، أنها لم تقم بواجبها المهني في إثارة حقيقة ما جرى في الأراضي الفلسطينية المحتلة خلال الحرب الأخيرة، فقد تمكن أهلنا، العمال والتجار والسياسيون من اختراق الحصار الإسرائيلي وإدخال المواد الغذائية والأدوية، بينما الصحافيون أحجموا عن اختراق تلك المناطق لفضح حقيقة ما ارتكب من جرائم حرب.
وحتى لا يفهم خطأ ما ورد في الحديث عن الصحافة الفلسطينية تحت نير الاحتلال الصهيوني، ويفهم بأن ما قيل عن الحريات في «إسرائيل» ترويج لهذا الكيان اللقيط، ينبغي التمييز بين ما تقوم به حكومة تحالف اليمين المتطرف لشارون الثانية من هجمات مكشوفة على الحريات العامة ومن بينها الحريات الصحافية، وبين انتظام القوى الديمقراطية والجمعيات الحقوقية في معركة جماهيرية - حقوقية - قضائية من حراك سياسي ديمقراطي لصد هذه الهجمات والدفاع عن الحريات ورفع القيود التي تفرضها الحكومة اليمينية على الصحافة التي كشفت فضائح الفساد لدى القيادة العليا، علما أن جميع قضايا الفساد التي وصلت إلى غرفة التحقيق في الشرطة والنيابة، كان مصدرها الصحافة الإسرائيلية، ولم تكشفها الشرطة بقواها الذاتية بما في ذلك الفضائح الخاصة بالإرهابي شارون، وهذه ميزة صحية وإن كنا نكن العداء للعدو الصهيوني لأنه وبالمنطق يفوز علينا نحن العرب في كل حروبه ضدنا بالديمقراطية (ومن دون الصراخ العاطفي الذي تعودنا عليه في الفضائيات العربية).
هنا يكمن الفرق بين ممارسة وترسيخ الديمقراطية في مجتمعاتهم، وبين ما نتشدق به من ترويج لديمقراطيتنا خارج حدودنا فقط، بينما أصغر ربة بيت عربية على علم بالحقائق.
وفي العراق، وعلى رغم تعقيدات الوضع الأمني والسياسي والاقتصادي، وعلى رغم الأمر 14 لسلطات الاحتلال المؤقتة بشأن «الممنوعات الإعلامية» الذي وقعه الحاكم الإداري لسلطة التحالف المؤقتة بول بريمر، فإن هناك بوادر لانطلاق إعلام عراقي حر ومستقل، إذ ظهرت على السطح عشرات الصحف اليومية والاسبوعية والشهرية والدورية، الحزبية منها وغير الحزبية، كما برزت محطات فضائية مستقلة فور سقوط الدكتاتورية، وتتمتع هذه الصحف والمحطات بمساحة واسعة من الحرية، بعد أن عانى الصحافيون العراقيون كثيرا من الوطأة الثقيلة للنظام السابق، إذ فقد الكثيرون منهم وظائفهم، واضطر آخرون إلى الهرب من البلاد والعيش في المنفى واقتيد آخرون إلى السجون وعذبوا وأعدم منهم الكثيرون، فيما أصبح البعض منهم رقما في المقابر الجماعية التي اشتهر بها النظام المنهار
العدد 623 - الخميس 20 مايو 2004م الموافق 30 ربيع الاول 1425هـ