صعبة هي الثنائية التي تناولها المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري في الاصبوحة السياسية التي نظمت على هامش ملتقى أصيلة - البحرين.
ثنائية الأنصاري تلك تكتسب أهميتها بوصف صاحبها مفكرا وقبل ذلك منظّرا لعملية المشروع الإصلاحي في البحرين وقريبا من دوائر صناعة القرار.
وهذه الثنائية لم تكن جديدة على الواقع العربي، فقد أثارت جدلية واسعة وكتبت فيها عشرات الاطروحات الأكاديمية، غير أن أهميتها تكمن في المخاض العربي الحالي وأكثر من أي وقت مضى، فالعرب - أو لنقل الأنظمة العربية - متجهون طواعية أو مكرهين الى قبول نوع من التعددية ولو بدرجة ما.
فثمة استقراء للتاريخ السياسي العربي قد دلل بوضوح على عقم هذه المعادلة الصعبة، ولكن السؤال المطروح بقوة اليوم يدور حول دراسة إمكان مدى التأثير الذي ستتركه رهانات الماضي، وكيف ستلقي بظلالها على الواقع والمستقبل العربي، وخصوصا إذا ما أخذنا في الاعتبار التبعات السوداوية والثقيلة للماضي العربي، والتي لا تبشر بالخير مطلقا.
فالفكر السياسي العربي في بلادنا العربية لم يسمح يوما ما بقيام تعددية حقيقية متمثلة في خيار المعارضة، فالحديث عن المعارض يساوي انتهاكا صارخا لسيادة «الدكتاتورية المقدسة» التي يسبح هذا الواقع السياسي في فلكها، حتى تغنى شعراء كثر في تاريخنا بسيف السلطان وبطشه، ورقصت الجواري على نغمات الدماء التي ارتوت منها بلادنا العربية ومازالت، وآخرون تغزلوا بجواري البيت السلطاني، طمعا في نيل رضاه تارة أو اتقاء شره تارة أخرى!
والحديث عن المعارضة أو مفهوم «اللاسلطوية» كما عرفّه فلاسفة اليونان القدامى ينحصر دائما - وفقا للحراك السياسي العربي - بين الإفراط والتفريط: أولها معارضة راديكالية رافضة، وهي المعارضة التي يثير حفيظتها كل شيء يمت إلى النظام من قريب أو بعيد، وعلى الضفة الأخرى تقبع معارضة فلكلورية (موالاة مبطنة) ربما يصنعها النظام نفسه، وبلا ريب فإن هذا النمط من المعارضة ليس بمقدوره إلا أن يعيش أوهام النظام الأسير لفكره وبطشه ورؤاه، فلا وجود لهموم شعبها ومجتمعها في أجندتها أو قاموسها السياسي.
وحتى الفترة التي أعقبت ذلك مثلت نقطة تحوّل كبرى في تاريخ العرب إذ شهدت نوعا من قبول الرأي والتجاذب الفكري في إطار مفردات التسامح السائدة. ولكن ذلك الموسم الربيعي سرعان ما تلاشى بعد سنوات عدة، لان السياق الاجتماعي الذي شهدته تلك المخاضات لم يكن على درجة من الوعي والتمعن.
ليس ثمة شك أن عددا لا يستهان به من قادة التنوير في الفكر السياسي العربي من أمثال الكواكبي وجمال الدين الأفغاني وطه حسين والشهيد محمد باقر الصدر وغيرهم كثيرون حاولوا جاهدين اجتراع الموت علنا عندما شرعوا في التنظير ولم يصلوا الى مرحلة التطبيق بعد، ومصير هؤلاء كان بين زجات السجون وبعضهم نفي الى الصحارى المقفرة والبعض الآخر دفن مع رؤاه تلك، ليعيش صمتا أبديا، واقل الأحوال سوءا أنهم يعيشون اضطهادا فكريا وتجاهلا شعبيا. ولكن في المقابل فان أداء غالبية الحركات السياسية المعارضة في العالم العربي لم يتسم بالحرفية السياسية، وانشغل بعضها بقضايا لا تمت إلى المطالب الشعبية إلا من خلال الاسم ربما، بحيث أصبحت تلك المطالب جوفاء وينظر إلى التطرف في المعارضة بسخط وازدراء من قبل الكثيرين في العالم العربي.
وعودا على بدء يمكن القول ان التطرف الراديكالي في المعارضة قد قاد بلدانا عدة إلى حافة الهاوية، وادخلها في صراعات دموية تزيد أحيانا على دموية الانظمة، وارتكبت بسبب تلك الحماقة مجازر اوقعت ضحايا بالآلاف. وبالمقابل يحدثنا التاريخ العربي عن معارضة تتربى في أكناف النظام، ويعيش رموزها بحبوحة العيش، معارضة تدور في فلك النظام السلطوي، وتشترك في إبادة شعبها، وتسبّح بذكر أنظمتها ليلا ونهارا
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 623 - الخميس 20 مايو 2004م الموافق 30 ربيع الاول 1425هـ