اليوم يوم جمعة، وكان بود المرء أن يتناول موضوعا خفيفا على القلب، لكن ما يفعله الوحش الأكبر شارون لا يسمح بمرور أيام الجمع دون جروح أو إسالة دماء، فهذا دأبه منذ ثلاث سنوات.
هذا الغول حوّل أيامنا وأماسينا إلى حزن مقيم. نغمض أعيننا على أشلاء الفلسطينيين عند منتصف الليل في حفلات الشواء الصهيوني، ونفتحها على أشلاء أخرى اقتطفها شارون طازجة لحفلات الصباح والظهيرة. أعيننا لا تغمض على الوضع في الأراضي المحتلة، مجازر بشعة وقتل متعمد، وصلافة بلغت نهاية المدى، ولا غرابة ممن يحملون في أنفسهم التصور الخرافي: «نحن شعب الله المختار».
هذه النفسية البدوية المريضة التي أورثتهم إياها سنوات الترحال والضرب في صحراء التيه قرونا، والعيش في مستنقع «الغيتو»، حتى تضخمت عندهم غدة «الأنا»، جعلتهم لا يطمئنون إلى أحد ولا يثقون بأحد. صدقوا انفسهم بأنهم «الشعب المختار» والشعوب الأخرى بهائم يمتطونها. والويل لعصرٍ يصبح فيه رئيس أقوى دولة في الأرض مطية لهم يركبونها كالناقة المخطمة، يركض بهم إلى حيث يريدون، يزيّن لهم أهواءهم، ويشدّ من عزيمتهم، ويبرّر لهم سفك الدماء انهارا. فللغزاة الطارئين على الأرض كل الحق في الدفاع عن أنفسهم، وليس لأصحابها الفلسطينيين الحق في الدفاع عن أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، بل عليهم أن يقتلعوا من عقولهم فكرة «الوطن»، كأن الوطن علبة من السردين أو سندويشة همبرغر في مطعم «فاست فود».
صلفٌ يدعمه صلفٌ، ووقاحة تجاريها وقاحة إلى نهاية الشوط، لا القاتل يرعوي ولا الجزار تكلّ يده عن القتل. الفلسطينيون وحدهم الذين عرفوا المعادلة وصمموا على إسقاطها مهما كلف ذلك من تضحيات، واختاروا طريقهم في عصر المذلة الكبرى: «نموت واقفين ولا نركع». يردّدون متباهين: «هذا هو العرس الذي لا ينتهي... في ساعةٍ لا ينتهي، في ليلةٍ لا ينتهي... هذا هو العرس الفلسطيني». فقط الفلسطيني باقٍ قابض على الجمر وعلى الدم، في عرسٍ متجدد، كأني بشبان فلسطين يتلألأون في سماء الذل العربي، فيما شباب العرب يُستدرج للجلوس فاغرا فاه حول موائد اللحم الأبيض النيئ الذي تحوّم من حوله الذباب. برامج تنفق عليها وزارات إعلامنا الفاشلة الملايين من خبز الفقراء، لتقدم أبطالا من زئبق: مرة باسم «الأخ الأكبر»، ومرة باسم «السوبر ستار»، نجوما يراد لها أن تكون العنوان الأكبر لعصر الذل الذي يلقي أطنابه على جسد هذه الامة المستباحة من أفغانستان إلى العراق وفلسطين.
وقادتُنا سيجتمعون غدا في تونس، يا بشرى! فلا أحد يترقب من هذا الاجتماع غير مزيد من الاستهانة بالكبرياء الفلسطينية، فتمنيت أن يبعث لهم الفلسطينيون 22 صندوقا صغيرا مثل صناديق الحلوى الملونة، محملة ببعض أشلاء أطفالهم هدايا تعلق على أبواب المدن العربية أو على أبواب قصور السلاطين
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 623 - الخميس 20 مايو 2004م الموافق 30 ربيع الاول 1425هـ