هل يكون الهجوم العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد الإسلام بداية يقظة إسلامية معاصرة؟ ولمَ لا. فالعالم في أساسه يقوم على «التدافع» والتدافع هو أساس التطور ولولاه لتوقف الإنسان عن البحث عن وسائل لدرء المخاطر.
الإسلام اليوم يواجه تحديات كثيرة لا تقتصر على الجانب الأمني - السياسي وإنما تطاول أوجه مختلفة تتعلق برؤيته للإنسان والحياة وسنة التطور وكل ما يتصل بالثقافة والاجتماع والاقتصاد. هذا التحدي الكبير يمكن أن يتحول إلى نقطة مضيئة في تاريخ الإسلام إذا حاول المسلمون الاستفادة من اللحظة التاريخية واستجابوا للتحدي العالمي. فنظرية «التحدي» و«الاستجابة» التي قال بها الكثير من المؤرخين والفلاسفة ربما تنطبق اليوم على الحال الذي آل إليه المسلمون في علاقاتهم المضطربة مع العالم. وهذه العلاقة المضطربة قد تسفر في المستقبل عن طفرة إسلامية كبرى تعيد للإسلام دوره التاريخي والحضاري.
هذه الطفرة غير مستبعدة في حال نجح المسلمون في تأكيد ممانعة الإسلام وتثبيت أصوله الإنسانية التي لا خلاف على قيمتها الحضارية، ورده التحدي والعمل على الاستجابة للمتطلبات الضرورية التي يحتاجها العالم المعاصر. فالعالم اليوم يشهد فراغا روحيا بسبب سيطرة القيم المادية والنفعية. والإسلام في جوهره يرد على الحاجتين المادية والروحية ويوازن بينهما. والعالم اليوم بعد انهيار الأفكار الاشتراكية إثر سقوط الاتحاد السوفياتي ومعسكره يبحث عن بدائل تنقذه من هذا التوحش الرأسمالي الذي استبد بالعالم واسقط من حساباته كل القيم المتعلقة بالحرية والعدالة والإنسانية. الإسلام اليوم حاجة عالمية إذا أحسن المسلمون رد التحدي واستجابوا حضاريا لمبدأ «التدافع» الإنساني وأعطوا ما عندهم من غنى فكري يرتكز على تراكم تاريخي متوارث منذ 15 قرنا. فالمهم قبول التحدي والاستعداد للاستجابة لكل المخاطر والمواجهات.
«رب ضارة نافعة». فما يحصل اليوم للمسلمين في مختلف الأقطار قد يكون مناسبة لإعادة انتاج (تطوير وتحديث) أدوات المعرفة حتى تتناسب مع تحديات العصر. وهذا يحتاج إلى ثقة بالنفس وشحذ الإرادة والبدء في التفكير بوسائل تعيد الاعتبار لحضارة كان لها الدور المحوري في نهوض العالم وخروجه من الظلمات إلى النور.
وما يواجه الإسلام اليوم من تحديات واجهته سابقا الكثير من الحضارات. وانتهت المواجهات إلى واحدة من نتيجتين: إما الاستسلام وبعده يأتي التلاشي والاضمحلال، وإما الممانعة وقبول التحدي والاستجابة لمتطلبات العصر. والإسلام مر تاريخيا بتحديات سابقة واستجاب لها ونجح في استيعابها وتجاوزها فاستمر هو وانتهت هي.
اليوم أيضا يكرر الزمن دورته ويطرح من جديد على الإسلام الكثير من التحديات، وهناك فرصة تاريخية للاستفادة من هذه اللحظة لكسب الجولة والانتقال من الدفاع إلى الهجوم بشرط أن يعاد اكتشاف الإسلام وما قدمه من جديد وصالح لكل مكان وزمان.
أميركا اليوم أصيبت بالغرور وترى أنها كسبت معركة التاريخ وأن جولتها مع المعسكر الاشتراكي انتهت إلى انتصار نهائي على العالم. وان جولتها تلك هي المباراة الأخيرة في التاريخ ولم يعد هناك من ايديولوجية منافسة لايديولوجيتها. وباسم الانتصار على «الشرق» وفي ضوء وهج الأيام الأولى لسقوط الاتحاد السوفياتي صدرت عشرات الكتب التي تؤدلج الانتصار الأميركي وتعتبره «نهاية العالم» و«نهاية التاريخ» وأن البشرية ستمر في فترة استقرار طويل ولن تنهض أيديولوجية مضادة للرأسمالية في الزمن المنظور.
هكذا قدمت هذه الكتب الانتصار الأميركي، إذ رأت فيه نهاية للتطور والتقدم ولكنها وجدت في الإسلام القوة الوحيدة القادرة على إحياء نفسها في حال توافرت له وسائل الازدهار والتقدم. وفي ضوء هذه الاستنتاجات نشأت مخاوف عند المنتصرين من الإسلام وبدأت دوائر القرار تخطط لمواجهة أخيرة تحسم المعارك المؤجلة معه. وصدرت في هذا الصدد عشرات الكتب تحذر من عودة الإسلام وعقدت مئات الندوات لبحث المسألة ووضع الخطط الكفيلة بقطع الطريق على مثل هذا الاحتمال.
هذه النقاط معروفة والكتب موجودة في المكتبات وهناك غيرها من تقارير محدودة التداول صدرت عن هيئات ناقشت الكثير من الأمور والتفصيلات وحددت سيناريوهات لما أسمته «صدام الحضارات».
كل هذا بات شبه متداول وليس سرا. ولكن غير المعروف هو ماذا فعل المسلمون لمواجهة مثل هذا التحدي وكيف استجابوا له؟ حتى الآن تبدو الأمور غير واضحة. وهذا الغموض سبب ارباكا وأتاح لبعض المنظمات والأحزاب السرية التحرك من وراء الستار وادّعاء التحدث باسم الإسلام والمسلمين في وقت بدت فيه الأمة غير مستعدة لمواجهة مثل هذا التحدي العالمي.
والسؤال: هل يستمر الحال على ما هو عليه حتى تفوت اللحظة ويبدأ الاستسلام والانهيار وثم التلاشي والاضمحلال أم تأخذ الأمة على عاتقها تقرير مصيرها ومستقبلها من خلال إعادة اكتشاف الإسلام في ضوء تطور العالم المعاصر؟ هذا السؤال حاول الإجابة عنه الكثير من المجتهدين منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى نهاية الحرب العالمية الثانية. ففي هذه الفترة صدرت الكثير من الكتب الإسلامية التي ترصد التحولات الدولية وترد عليها، كذلك صدرت الكثير من البحوث التي تناقش النظريات المعاصرة في مختلف حقول العلوم الطبيعية والاجتماع والاقتصاد. وللأسف فإن معظم تلك المحاولات وبغض النظر عن مستواها مهملة الآن ولا يرجع إليها أحد باستثناء المتخصصين أو الباحثين في شئون تاريخ الأفكار.
هذه الكتب المعاصرة (دونت في القرنين الماضيين) ثروة كبيرة إذا استفيد منها وأعيد التعرف عليها في ضوء التحديات الجديدة. وأهمية هذه الكتابات المعاصرة أنها تعكس تجارب ليست بعيدة عن زمننا وتكشف عن تحديات عانى منها أسلافنا في الهند وإيران وتركيا وبلاد الشام ومصر وبلاد المغرب. فهذه الكتابات تظهر إلى حد كبير زوايا مختلفة وأحيانا مشابهة للتحديات التي تواجهها الأمة في أيامنا. فالزمن إلى حد ما متقارب وهو يشير إلى وجود مأزق بين الإسلام والحداثة، وكيف يمكن أن يتعايش المسلمون مع زمن حديث.
اكتفت تلك الكتابات بالرد على التحدي ولم تستجب له. فالرد كان ضروريا ولكنه ليس كافيا للتجاوز. وهذه الثغرة كانت سببا لعدم قدرة الردود على تطوير أدوات معرفية وتأسيس مناهج تفكير (تفقه) معاصرة تستوعب الجديد وتعيد انتاجه (تأصيله) وطرح بدائل واقعية تلبي حاجات التطور العالمي. اكتفت تلك الكتابات بلعب دور السالب وتحديد الفروقات وضبط حدود التمايز بين الإسلام وغيره. فالكتابات غلب عليها الطابع الدفاعي وتوضيح إيجابيات الإسلام استنادا إلى نصوص ولم تحاول الانتقال من النص إلى المعرفة من خلال إعادة اكتشاف الإسلام أو كما كان يقول العلماء والفقهاء «احياء علوم الدين».
احتاجت تلك الكتابات إلى نزعة احيائية حتى يكون عندها القدرة على التكيف والتطور. واحتاجت أيضا إلى خطوة متقدمة تنقلها من الإطار السالب إلى الموجب (الاستيعاب والتجاوز). فالاكتفاء برد التحدي من دون استجابة للتحديات نفسها عطل إمكانات تطوير تلك الكتابات وتحويلها من مهمة الدفاع عن الإسلام إلى هجوم يتناول هموم الإنسان بعيدا عن هوياته الدينية. فالنظرة إلى العالم آنذاك نهضت على ثنائية رسمت فواصل الاختلاف ولكنها لم تتقدم إلى الأمام معتبرة أن تحديات الإسلام هي في النهاية تحديات عالمية وأن المسلمين هم من هذا العالم وليسوا خارجه. فالأسئلة في النهاية مشتركة وبالتالي لابد من أن يشترك المسلمون في الرد عليها كجزء من حركة الكون وليس كقوة منفصلة عن حركته.
هذا الخطأ المنهجي (المعرفة وأدواتها) لم يرتكبه أسلافنا القدامى. فمثلا حين مرّ العلماء والفقهاء في محنة «امتحان القرآن» في العصر العباسي الأول ردوا على التحدي من منطلقين: السالب (الممانعة والرفض) والموجب (استيعاب التحدي وتجاوزه).
بدأت المعركة آنذاك طويلة واستمرت من نهاية القرن الهجري الأول إلى أن انتهت محطتها الأولى في القرن الرابع للهجرة. ففي تلك الفترة نجح الإمام الأشعري بالانتقال من المعتزلة وانحاز إلى السلف وأيدهم بمناهج كلامية. فالأشعري لم ينفصل عن المعتزلة فقط بل تمرد عليهم أيضا وأعاد اكتشاف أدوات المعرفة كوسيلة منهجية للرد على التحدي والاستجابة له. وبعد الأشعري (توفي 324هـ)، اشتهرت تلك السلسلة الأشعرية فجاء من مدرسته القاضي أبوبكر الباقلاني (توفي 403هـ)، وأبي بكر بن فورك، وأبي اسحق الأسفرايني (توفي 418هـ)، ثم إمام الحرمين أبوالمعالي الجويني (توفي 478هـ)، وتتوجت السلسلة الشافعية - الأشعرية بالإمام الغزالي (أبوحامد) الذي نقل الفقه (فلسفة المسلمين) من الدفاع إلى الهجوم ونجح في تفكيك نصوص الفلاسفة وإعادة انتاج منهجية جديدة في التفكير أسهمت في إحياء علوم الدين في عصره.
هذا النوع من الاجتهاد (الإحياء وإعادة الاكتشاف) احتاجته كتابات الكثير من المدافعين عن الإسلام أو المسلمين منذ القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين. فتلك الكتابات كانت مجرد قراءة سلبية للتحديات الأمر الذي انتج حالات من الانكفاء والعزلة بينما العصر يتطلب المزيد من الانفتاح والتجاوب تمهيدا للاحتواء والتجاوز.
نحن الآن نمر بظروف مشابهة لتلك الأوقات العصيبة، فهل نشهد يقظة إسلامية تتبع سنة أسلافنا القدامى مستفيدة من التحديات العالمية أم نكتفي بردود سالبة كما فعل أسلافنا المعاصرون من الهند إلى المغرب. انها فرصة، لكنها فرصة لليقظة (إعادة اكتشاف) وليس للاستسلام كما تدعو بعض الجهات. فالأمم الحية لا تقعد حتى تتلاشى وتضمحل بل تتدافع، لأن التدافع هو سنة التطور والحياة. وهذا ما ينتظره العالم من الإسلام
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 623 - الخميس 20 مايو 2004م الموافق 30 ربيع الاول 1425هـ