أجمعت مداخلات ندوة «التطرف ومظاهره في المجتمع المغربي» على أن التطرف الديني انفلات حقيقي عن وسطية الإسلام وقيمه الإنسانية.
وانكبت الندوة التي نظمتها أكاديمية المملكة المغربية بمناسبة مرور عام كامل عن التفجيرات التي هزت مدينة الدار البيضاء والتي أدت إلى مقتل ما يزيد عن 46 شخصا بينهم أجانب على مقاربة مفهوم التطرف ومظاهره في المجتمع المغربي من خلال إسهامات ثلة من الباحثين والخبراء والأساتذة الجامعيين.
وأوضح عضو أكاديمية المملكة المغربية ومدير جلسات هذه الندوة عباس الجراري «أن لجنة القيم الروحية والفكرية بالأكاديمية ارتأت تنظيم هذا اللقاء العلمي بمناسبة مرور سنة على الحادث الإرهابي لـ 16 مايو/ أيار في الدار البيضاء»، مضيفا أن «واقع الحال داخل العالم الإسلامي وخارجه أصبح يستدعي أكثر من أي وقت مضى الانكباب على تدارس مفهوم التطرف الديني وعوامله وعواقبه، وخصوصا في ظل الدعاوى التي نسبت إلى الإسلام الكثير مما ارتكب عن جهالة باسمه وهو بريء منه براءة تامة».
وأكد في مداخلة تمهيدية خصصها لتحليل مفهوم وسطية الإسلام، أن «الوسطية عموما وفي جميع المظاهر السلوكية اللصيقة بالإنسان صفة حميدة تقع بين حدين متطرفين كلاهما هالك مهلك، وأنها في الإسلام لب النهج المرتضى لكل مسلم ومجتمع إسلامي في كل منحى من مناحي الحياة»، مستحضرا في هذا السياق الكثير من الآيات القرآنية التي تدعو إلى الوسطية وتحث على التزام ما يأتي عنها وضمنها من سلوكات.
وشدد الجراري على أن الوسطية «خيار والتقاء الأمة وإجماعها على الطريق والتزامها بالعدالة في كافة أمورها»، مشيرا إلى أنها لا ترتبط بالجانب الديني العقيدي فقط، بل أيضا بالمعاملات لتصبح على نحو من الأنحاء الوسطية في الحياة بأمورها المختلفة واقعة بين أقصى حدين «المنع من الاغتراف من طيبات الحياة بأصنافها وملازمة هذه الطيبات والإكثار منها والانغماس فيها». وخلص إلى أن هذه الوسطية لن تستقيم إلا «بوأد كل أصناف الغلو وتبني ما فيه صلاح الفرد والجماعة بقلب ثابت وفكر منفتح أساسه الأصول وغايته الإخلاص لروح مقاصد الشريعة»، عملا بالحديث الشريف «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه».
من جانبه عزز عضو الأكاديمية عبدالهادي بوطالب (وهو مستشار العاهل المغربي الراحل والذي أشرف على تدريس كل من الملك محمد السادس وقبله والده الراحل الحسن الثاني) في مداخلته عن «حركات التطرف في العالم ووسائل تحصين الشخصية الوطنية» هذا الطرح بالقول إن «مفهوم التطرف في جميع اللغات اقتعاد الطرف أو الجانب الأقصى وأنه تحول من هذا البعد المكاني إلى البعد الفلسفي والأخلاقي القيمي، وأضحى معه المتطرف بالإجماع انعزاليا شاذا عن الجماعة، أصابته لوثة الانطواء والاكتئاب والشعور بالنقص أو التعالي، باعتقاده أنه مالك للحقيقة بالمطلق». وأضاف أنه في حال التطرف الديني فإن المتطرف سرعان ما يقفز إلى الحكم على من لا يشاطره الرأي بالكفر قبل أن يصل إلى ضرورة الحكم بتصفيته، ملاحظا بهذا الخصوص أن التطرف يصل أقصاه عندما يصير عنفا ويتمظهر في أشكال إرهابية.
كما أجمعت مختلف المداخلات التي طرحت في الجلسة الثانية من الندوة، على أن التطرف وما ينجم عنه من إرهاب يعد إشكالية معقدة تتطلب معالجتها تحليلا عميقا لإدراك مختلف أبعادها وملابساتها وتوضيح مسبباتها وما تفضي إليه من انحراف.
في هذا السياق استعرض مدير جلسات هذه الندوة الجراري في عرض تحت عنوان «أسباب التطرف والإرهاب» جملة من الأسباب الكامنة وراء ظاهرة التطرف والتي أجملها على الخصوص في عاملي الجهل والأمية باعتبارهما الأكثر إذكاء لنار التطرف وتضخم ظاهرة الفقر في البلاد العربية والإسلامية وضعف حرية التعبير وقلة التواصل بين الأجيال.
وأضاف الجراري أن هذا الوضع أدى إلى ظهور «تيار الغضب والنقمة على الحاكمين، بل على المجتمع كله بما في ذلك النقمة على الذات»، مشددا على عدم الاقتصار في مواجهة الظاهرة على الجانب الأمني على رغم أهميته وضرورته، مشيرا إلى أن المعالجة يجب أن تراعي ثلاثة اتجاهات تتمثل في ضرورة سلوك سياسة اقتصادية واجتماعية وثقافية قائمة على مخططات تهدف إلى تحسين أوضاع الفئات المعوزة، والعمل على نشر الوعي الديني والوطني الهادف إلى تكوين المواطن الصالح عبر تشكيل مؤسسات وأجهزة علمية قادرة على مراجعة البرامج الإعلامية والمقررات التعليمية، ثم بذل الجهد الأمني الصارم «باعتباره أحد ملامح قوة الدولة، لكن من دون تضييق على الحريات أو إطلاقها بفوضى وتسيب».
من جهته، سجل عضو أكاديمية المملكة المغربية أحمد الخمليشي، في مداخلة له بعنوان «الإرهاب من خلال شعاراته التضليلية... هل هو رد فعل ذاتي أم تأثر خارجي؟»، أن الحجم الذي أخذه الإرهاب الناجم عن التطرف يرجع إلى عاملين اثنين يتعلق الأول بثقافة التنافر بين نظم الحكم والمجتمع وعدم وجود فكر نير قادر على المواجهة.
وقال إن دعاة التطرف حولوا المقومات الدينية المتعلقة بمفاهيم الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطبيق الشريعة الإسلامية، إلى شعارات تضليلية يربطونها بنصوص الإسلام في مسعى إلى ترويج خطابهم المتطرف.
وأكد أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبدأ جوهري يتوجه أساسا إلى سلوك الشخص ليصلح ذاته أولا، معتبرا أن استعمال العنف من طرف الأفراد انتهى بعد أن وصل التنظيم الاجتماعي إلى المستوى الذي جعل الدولة ومؤسساتها تقوم بمهمات الضبط الاجتماعي.
من جانبها تناولت عضو أكاديمية المملكة رحمة بورقية، موضوع التطرف من زاوية الفكر، معتبرة أن النسق الفكري الذي يدور حوله التطرف يقف كنقيض للفكر العلمي الموضوعي «لأنه يحمل كل ما ينفي مقومات الفكر العلمي النقدي والسببية وموضعة الحوادث التاريخية والأخذ بمبدأ الاختلاف»، موضحة انه كلما احتلت الأفكار المتطرفة حيزا، كلما تقلصت مساحة الفكر وأصبح «في محنة» بفعل المقومات التي يقوم عليها.
وأكدت بورقية في مداخلة تحت عنوان «التطرف ومحنة الفكر» أن مقاربة خطاب التطرف تستوجب التمييز بين الدين كمعيار، والدين كظاهرة يعيشها البشر ويكيفونها بحسب أوضاعهم الاجتماعية ورغباتهم وطموحاتهم السياسية، وبين خطاب ينتج عن الدين ليقدم نفسه على أنه الخطاب الصحيح.
واستعرضت الباحثة من جهة أخرى مجموعة من المقومات الفكرية التي يرتكز عليها خطاب التطرف المتمثلة في الأدلجة التي تجعل من الدين أداة قابلة للتوظيف الأيديولوجي ومبدأ الوثوقية (أي خطاب الحقيقة الواحدة والأخذ بذاكرة تنفي التاريخ) ثم مبدأ الشكلانية التي تقوم على الفهم الشكلاني للدين، ومبدأ تحويل معاني القاموس الإسلامي وفرض انتقائية عليه
العدد 622 - الأربعاء 19 مايو 2004م الموافق 29 ربيع الاول 1425هـ