العدد 622 - الأربعاء 19 مايو 2004م الموافق 29 ربيع الاول 1425هـ

دالي... البائع المتجول الذي تأثر به فنانو البوب

واشنطن - إيد مكورماك 

تحديث: 12 مايو 2017

ظل طيف سلفادور دالي موجودا في الوعي العامِّ لمدة طويلة حتى أننا من الممكن أن نخدع أنفسنا بالتَفْكير بأننا نَعْرفُ كُلّ ما يجب علينا معرفته عن هذا الرجل. ولكننا عندما نلقي نظرة فاحصة مرة أخرى على شخصية دالي فإننا نرى دالي الجديد والمختلف عن دالي الذي عرفناه، ويبدو ذلك صحيحا وخصوصا عند مشاهدة «معرض سلفادور دالي 1952-1974» والذي يعرض أكثر من عشرين لوحة أصلية مجهولة. لقد ظهرت هذه الأعمال أخيرا ضمن مجموعة أسطورية خاصّة لم تعرض في أميركا من قبل.

وحتى في أسوأ حالاته عندما كان يعمل كمنظّم عروض وبائع متجول تفوق دالي على الكثيرين ممن جاءوا بعده والذين صنعوا أنفسهم من مخلفاته. ولا ننسى الـتأثير الهائل الذي تركه دالي ليس على السورياليين والرسامين الرمزيينِ الآخرينِ فقط بل أيضا على فناني البوبِ والطليعيين أيضا. وما هي منحوتات كلايس أولدنبيرغ Claes Oldenburg الناعمة الا تقليدا رخيصا لأعمال دالي ومقتنياته.

إن موهبة دالي الذاتية للارتقاء بنفسه قلّلت من أهميته أحيانا لكنها لم تتجاوز عبقريته في الرسم والتلوين والطبع. كان دالي في غالبية الأحيان أسوأ عدو لنفسه مثل المركيزِ دي سايد الذي اعتبره دالي مثله الأعلى. وعلى رغم الكثير مِنْ الفضائحِ التي تورط فيها دالي في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات والتي تَضمّنَت أشخاصا معدومي الضمير كانت طبيعة دالي الجشعة مرتبطة بتَزييف الطبعاتِ على الورقةِ.

يعتبر الناشر الرسمي لأعمال دالي مِنْذ عشرين سنةِ البارون فيليب دي نوار دي ليسكار كالوكيل الشخص المسئول في السَنَوات الأخيرة عن إعادة تَأهيل سمعةِ دالي. أنجز دو نوار Du Noyer كل هذا من خلال اختياره المتعقّلِ وجهوده الجادّةِ. قبل بِضْع سَنَواتِ فقط، في أعقاب المحاكمةِ المخزيةِ لدالي في السبعيناتِ، كانت سوق أعمال دالي في هبوط مستمر لأن الاهتمام كان منصبا على جمع الأعمال الفنية الأصيلة.

من خلال عملِه كسب دو نوارDu Noyer الثقةَ والاحترام اللذين مَكّناه من فتح المعرضِ الحاليِ بالاشتراك مَع رولاند وينستين في معارضِ وينستين. هذا المعرضِ الذي اختير بعناية مِنْ مجموعةِ ألبرتو lbaretto الأسطورية، لَمْ يُر مثله في أي مكان منذ عِدّة سَنَوات.

تحتوي مجموعة ألبرتو lbaretto على أكبر مجموعة لأعمالِ سلفادور دالي في العالمِ - إذ تحوي أكثر من 600 لوحة زيتية ولوحة مائية ورسومات أخرى. وستكون هذه المجموعة قريبا تحت وصايةِ المؤسسة التي ستؤسسها العضوة الباقية على قيد الحياة التابعة لفريقِ جمع الأعمال الفنية لدالي، مارا البرتو. وباستثناء بضع قِطَع فنية سربت على مرِّ السنين، فان هذه المجموعة من أعمال دالي لم تعرف إلا في أوساط القليلين ممن عاصروا دالي. إلا أنه وفي العام 1996 أقام زوج مارا ألبرتو في ذلك الوقت جوسيبي ألبرتو والذي مات بعد سنتين معرضا رئيسيا لأعمال دالي في Palazzo Bricherasio، بتورينو، إيطاليا

أنتجَ دليل المعرض تحت رعاية الوزارةِ الإيطاليةِ للفَنون وتَضمّنَ الكثير من المقالات مِن قِبل خبراء مشهورين متخصصين في أعمال دالي الأصيلة والذين اشتروا لوحاته الأصلية الأولى التي رسمها من صديقيه الثريين في فترة الخمسينات. لقد كانت علاقة دالي بصديقيه اللذين كانا يعملان بمهنة الطب قوية جدا لدرجة أنه أشار إليهم بعائلته الإيطالية التي جعلته عرابا لبناتها.

أثناء عمل ألبرتو على تأسيس المعرض أصبح مهووسا بأعمال دالي الفنية حتى أنه لم يقبل بضم الكثير من الأعمال للمجموعة لأنه اعتبرها دون المستوى المطلوب وأنها لا تطابق المواصفات التي وضعها بنفسه.

جميع هذه الأعمالِ التي تدمج الطبع وتقنيات الرسم تعتبر فريدة من نوعها. ومن أبرز القطع الفنية المعروضة في المعرض هي لوحة Divine Comedy Purgatoire التي رسمها الفنان في العام 1947. كذلك تعتبر إحدى لوحاته المعروضة والتي رسمها في العام 1936 معبرة جدا إذ استخدم فيها خطوط القلمِ الرفيعة لرسم صورة زيتية لشخصية نسائية رشيقة وعارية فوق قطعة خشبية مليئة بالألوان والصور الحية ومستندة على أربع دعائم وتحيط جذعها بأربعة سراويل داخلية. مثال آخر مثير لأعمال دالي الفنية هي لوحة Inferno Canto 2 التي رسم فيها رأس سيجمون فرويد بطريقة غريبة جدا تعبر عن شخصيته.

ولم يخف ألبرتو، الذي كان مؤمنا كاثوليكيا امتهن مهنة الكهانةِ قَبْلَ أَنْ يتوجه لطبِ الأسنان، رغبته في أن تكون مجموعتهَ التي عرضها لدالي الأفضل على المستوى العالمي لحفظ روحِ الفنان على رغم استيائه من توجهات غالا، زوجة الفنانَ التي اعتبرها ساحرة. ولمُجاملة ألبرتو الذي ربما كان سيُقنعُ دالي في النهاية برسم وتصوير التوراةِ، بدأ دالي في إدْخال رسومات للملائكةِ والصلبان ورعاة الكنيسة والرموز الدينية الأخرى إلى بَعْض أعماله إذ كان يرسمها بثقة مميزة. لقد صورت الكثير من لوحات دالي لغز السيد المسيح والبشرية لذلك فإننا يُمْكِنُ أَنْ نخمّنَ بأنّ جهود ألبرتو التبشيرية مع دالي لم تضع هدرا.

لقد دعم دالي ألبرتو بطرق أخرى أيضا لمُسَاعَدَته على تكوين مجموعة قيمة إذ وافقَ الرسّامُ على العودة ثانية إلى بَعْض الموضوعات السابقةِ في رسوماته مثل الساعات الذائبة والبيض المقلي ومشاهد ميناءِ لليغات Lligat.

ولكن أثيرت الكثير من الأسئلة هذه المرة حول ما إذا كانت هذه اللوحات التي تحمل توقيعات دالي أصلية. وعلى أية حال فقد قطع الشك باليقين، عندما ذهب المسئول الأرشيفي لأعمال دالي ألبرت فيلد إلى تورين Turin هو ومجموعة من الخبراء الآخرين ليذهلوا بعمقِ وتألقِ وأصالة المجموعةِ.

اشترى ألبرتو حقوق إعادة إنتاج لوحات دالي الأصلية لذلك فقد كان قادرا على إعادة إنتاج عدد من اللوحات والمطبوعات الحجرية التي وقعها دالي وصدق عليها. من ضمن اللوحات التي اشترى ألبرتو حقوق إعادة إنتاجها هي The Bible وThe one Thousand and One Night The Odyssey كما اشترى مجموعة لوحات Les Heures Clairs التي تحوي أكثر من 100 لوحة والتي زينها له دالي لاحقا بكل دقة وبراعة.

يَعْكسُ معرض ألبرتو براعةَ وجوهر المجموعة المنظمة على حسب المراحل الفنية وتعتبر لوحة الساعة Soft Watch on the Plain of Ampurdan التي رسمت العام 1952 أحد أهم وأشهر لوحات دالي باعتبارها الرمز التاريخي الأشهر الذي استعمله دالي.

ومن ضمن اللوحات الزيتية التي أعاد دالي رسمها هي لوحة Persistence of Memory Theالتي رسم النسخة الأصلية منها في العام 1931 وأعاد رسمها بعد عقدين من الزمان تقريبا إذ تفوقت على اللوحة الأصلية. تشتمل اللوحة على ثلاث ساعات، تصور تقدم الوقت ببطء وساعة أخرى رابعة تعج بالنمل وصور أخرى أكثر غموضا، فالمنظر الطبيعي الذي تظهر فيه الساعة والذي يصور شاطئ البحر في ميناء لليغات إذ يلتقي البر بالبحر في خط الأفق يبدو أكثر تعقيدا وغرابة وشاعرية مقارنة بلوحة Soft Watch on the Plain of Ampurdan التي تأسرنا ببساطتها.

وفي العام 1970 عاد دالي مرة أخرى إلى رسم لوحاته المائية الكلاسيكية عن الساعات إذ رسم لوحة الساعة الذائبة Melting Clock والتي تصور ساعة طويلة مرنة تتخذ شكل شخص منحن، كما أن مقبضها المُتَعَرِّج الذهبي يبدو كشكل تاج موضوع على رأس. إذا ما تعمقنا في تحليل هذه اللوحة أكثر نجد أنها تحمل معاني خطيرة فمن المحتمل أن دالي - والمعروف بمخيلته الواسعة جدا - تخيل هذه القطعة المنحنية بملك ذي منزلة رفيعة وعلى مقربة منه جسم بشري ضئيل بالنسبة إلى حجم الملك رافعا ذراعيه فوق رأسه، كما لو كان يائسا وعلى مسافة منه امرأة وطفل صغير يظهران من بعيد إذ تبدو المرأة وكأنها تشير إلى الشمس في السماء هذه اللوحة النادرة من توقيع دالي تحمل بصيصا من الأمل والتفاؤل بعد أربعة عقود من اللوحات التي تصور نظرة دالي المحبطة للحياة التي تصيبنا بالرعب بشكل مقلق جدا.

ومن أهم الأعمال التي توضح لنا جانبا آخر غير مألوف من جوانب دالي الفنية المتنوعة هي لوحة صليب السيد المسيح Christ of the Cross المرسومة بالألوان المائية على ورق مقوى ثقيل وهي لوحة معبرة جدا وجريئة على رغم ندرة التفاصيل استعمل فيها دالي ضربات سريعة ودقيقة بالفرشاة بكل مهارة. كذلك ترمز اللمسة النهائية في اللوحة وهي الهالة الدائرية التي يضعها دالي فوق رأس المسيح الى الخلود واللانهاية.

ومما لاشك فيه أن قوة دالي في التعبير عن أفكاره بالرسم كان من الممكن أن تأخذه في أي اتجاه يتمناه، فمثلا كان بإمكانه تمييز نفسه كفنان تعبيري لو كان لديه نظرة أوسع في الفن التشكيلي بدلا من التركيز على التفاصيل الدقيقة في كل لوحة. وفي إحدى لوحاته البارعة بعنوان دون كيشوت على حصان Don پuixote on Horse أثبت لنا دالي أنه يُمْكِنُ أَنْ يُنافسَ بيكاسو في رسم لوحات تقترب من التجريدية. إلا أن دالي قد أدركَ بحكمة مبكرة أنه لا يمكن أنْ يُخونَ حرفته الفنية الكلاسيكية كفنان.

ومن المؤكد أنه لا يوجد فنان في التاريخِ تعامل بحذر أكثر مع الموضوعات الدينية المقدسة والموضوعات الدنيوية إذ انتقل من لوحته Christ of the Cross إلى لوحته الأخيرة المرسومة بالحبر المركيز دي ساد The Marquis de Sade الشخصية التي بقيت طويلا في خيالِ دالي منْذ اللحظة التي منحه فيها صديقه منتج الأفلام لويس بونويل طبعة نادرة لساد Sade، بعنوان 120 Days of Sodom في أواخر العشرينات.

إن مجموعة سلفادور دالي الفنية ( 1952-1974) هي مجموعة سَاحِرة فعلا لَيسَ لأنها فقط إعادة اكتشاف أعمال دالي على مدى تاريخه المهني الطويل ولكن لأنها أيضا تصف علاقة الصداقة المعقدة بين أشهر عباقرة الفن مع جامعِ أعماله ألبرتو الذي أثر على دالي الى حد ما.

ومهما كان التأثير الديني الذي ربما تركه جوسيبي ألبرتو على بعض لوحات دالي الأخيرة فانه لم يستطع إقناع دالي، الذي كان معجبا كثيرا بأفكار الماركيز دو ساد، باتباع المنهج الكاثوليكي. وعلى أية حال فقد نجح ألبرتو وبمساعدة من زوجته مارا ألبتو في تكوين مجموعة فنية رائعة لسلفادور دالي نفخر حقا بمشاهدتها تجلت في معرض وينستين الرائع





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً