غدا التنظير سمة بارزة عند بعض المثقفين والمهتمين بالشأن السياسي سواء على المستوى المحلي أو العربي، وفي تجاهلٍ لمشاعر المواطن والتضحيات التي قدمها بهدف تحقيق مكاسب من الحريات والحقوق، وأكثر ما يلفت النظر، يجري خلط القضايا والأوراق وجعلها تتطاير فوق الرؤوس بغير حساب، وما يبدو غريبا، الخلط المتعمد بين أوضاع ما يحدث في بلد عربي محتل وتعميمها على الوطن. وقرأنا الكثير خلال الفترة الأخيرة، وما يستوقف المرء رأي نشر الأسبوع الماضي في إحدى الصحف المحلية، ويكاد يشكل نموذجا للتعبير عن حالٍ فريدة من نوعها في التجاذب ما بين المعارضة والحكم، وخصوصا انه رأي يتناول حال المعارضة والعريضة من كونهما مأزقا، ويبدو أن هذا الرأي كان حديث المجالس والمنتديات.
فقد كتب وبالتفصيل الذي لا يرحم، عن ضعف المعارضة السياسية وعدم تحولها إلى فاعل حقيقي مستقل في الحياة السياسية والاجتماعية، وعزا ذلك الضعف إلى عدة أسباب، غير أنه تغاضى عن أهمها، وهو انعدم تداول السلطة الذي يعتبر سمة من سمات الديمقراطيات العريقة أو الملكيات الدستورية، ولو جزئيا كما في الملكية المغربية، إذ يتمتع الحراك السياسي بممارسة تداولٍ للسلطة، وحزب معارض ذي غالبية في البرلمان وفي قيادة السلطة التنفيذية وتشكيل الوزارة، وطبعا لو توافر ذلك للمعارضة البحرينية، لكفل لها كامل الجاهزية لأداء دورها القيادي في تسيير الشئون المجتمعية، بيد أنه - أي الرأي - غيب الشرح بإسهاب عن السبب الحقيقي لذلك الضعف، وهو عدم اعتراف الحكم إلى الآن بالمعارضة كضرورة. ومؤشرات ذلك واضحة تماما، فلغاية الآن مازالت المعارضة محاصرة من كل حدب وصوب بقوانين قديمة مقيدة، وهي في حقيقتها ثمرة من ثمارعهدٍ بائد، كما أنه لا يجوز إنكار نشاط تنظيمات المعارضة ومطالبها التي أصبحت تتصدر الشأن السياسي العام، واهتمامات ومتابعات القصر والحكم والأمن والمجلسين والصحافة، حتى في بعض أعمدتها المخرّبة للوعي الشعبي. وعليه هل نحتسب نقطة لصالح المعارضة المحاصرة إعلاميا؟ هل نعترف بنجاحها في إدارة الصراع السياسي بتفوق ومن دون تصعيد أو توتير؟ لا بل بهدوء ونضج يقابله تصعيد مقصود أو عشوائي من الجانب الرسمي، يتعاطف معه ويدعمه المشاركون دون استثناء من أقلام غالبية الأعمدة الصحافية، حتى بلغ الأمر وكأن صوتهم هو صدى متضخم للصوت الرسمي، وهم أكثر ملكية ورسمية.
المعارضة والخارج
وتم إبراز رؤية المعارضة بشأن التعديلات الدستورية، ورافق ذلك إيحاء فاضح، حول أن هدف المعارضة التوكؤ على «ضغط الخارج». وكما تعلمنا من التاريخ، هو إيحاء بلاشك محبب من الطرف الرسمي، فلطالما هوجمت المعارضة واتهمت باللجوء للخارج الأجنبي، بالمقابل طالما تم اللجوء الرسمي للخارج ليبارك مسيرة الاصلاح السياسي. بيد أن البلية الكبرى تكمن في خلط الأوراق وعلى سبيل المثال، اسقاط موقف بعض قوى المعارضة في بلد عربي محتل على موقف المعارضة البحرينية، وشتان ما بين الموقفين، فبعض من عارض حكم الاستبداد ووقف مع الاحتلال الآن بعيد كل البعد عن موقف المعارضة البحرينية الوطنية الشريفة طيلة عمرها النضالي. الفرق كبير، لا يدركه إلا من عاش في أوساطها و«لشطته» لسعاتها. نقول هذا ونحن في غاية التحرر من أية انتماءات سياسية وحزبية أو عقائدية أو طائفية أو عائلية أو أو على الساحة، إلا الانتماء للضمير الوطني. المعارضة لم تلوح أو تقف مع أي محتل أميركيا كان أو غيره، كما لم تتحالف مع أنظمة الاستبداد، فهي قبل هذا وذاك، معارضة طرحت مبادئها بشفافية وضمن إجراءات منظمة واعتمدت على الشارع الشعبي وتعاطفه، والجماهير بالنسبة إليها صمام الأمان الأول لخطواتها، التي بدأتها بمطالبة المواطنين مقاطعة الانتخابات سلميا وحضاريا وعقلانيا ومن دون تصعيد، ثم تلتها بفعاليات إعلامية وندوات، ومؤتمر دستوري وعريضة دستورية. والأمانة العلمية تستوجب عدم اغفال دور المعارضة واعتمادها على المواطنين وضغطهم الشعبي المحرّك للراكد في الجانب الحكومي والبرلمان في حركته الخجولة في شأن التعديلات الدستورية ووعيه بالعجز عن تحقيق أي تقدم.
إن الحديث عن مراهنة المعارضة على الخارج أمر في غاية الحساسية والخطورة، ولابد أن يأخذ في البال الخطوات العملية التي نفذتها المعارضة في هذا الشأن، ومنها على سبيل الحصر دعوة بعض الضيوف للمؤتمر، لا بل من المهم الانتباه إلى أن المعارضة ولغاية هذه اللحظة لم تفعل برامجها الموجهة للخارج بشكل حقيقي، فلربما لديها خطوات جادة ومؤثرة، وهي في حال تروٍ وانتظار لما يسفر عنه حلحلة الموقف من الشأن الدستوري، وهذا دليل على حرصها على صيانة الوطن، وكل ما تنشده شرعية حقوق الإنسان الدولية، وقوانينها المتعارف عليها التي أخذت بها الحكومات والشعوب وبالتوافق.
في الزمان والمكان الديمقراطي الاختلاف حق للأطراف، فضلا عن حقها في صوغ رؤيتها في حال وجدت قوانين قاصرة وتتحكم في رقابها، حقها في ماذا؟ في اللجوء إلى التغيير والعدالة وبالاسلوب الحضاري والسلمي، فالموضوعية والحقانية تستدعي استحضار الحقيقة لا الأوهام، والإنسان مخيّر وغير مجبر على إرتداء رداء أقصر منه أو أطول، قليلا أو كثيرا، فقط لأننا في زمن ومكان ديمقراطي. أليس كذلك؟
خيارات المعارضة
أكد الرأي أن ليس للمعارضة من خيارات غير «خيار واحد أحد»، ألا وهو التصعيد والمواجهة السياسية، وهو ما لوحظ استخدامه بكثرة في بعض الكتابات الصحافية، ودون إبراز إجراءات «التصعيد - الاتهام»، ويجوز السؤال، عما إذا كانت خطوات المعارضة قانونية وشرعية وسلمية وعلنية؟ وما الإجراءات الرسمية تجاه كل خطوة؟ فمن الذي يخرق القانون ويلوح بقوانين لا تنسجم مع المشروع الإصلاحي؟ والهزال واضح في انعدام التعود على مبدأ المقاطعة المعروف والمقبول في جميع المجتمعات الديمقراطية والتجارب السياسية، إذ تقاطع الأحزاب لدورة ودورتين، وأحيانا لعقد ونصف عقد من الزمن كما حدث في المغرب، من دون تضخيم من الحكم أو المحسوبين عليه والمطبلين له وإلى صدى أصواته من موقف المقاطعة أو كيل الاتهامات، حتى أن هناك أحزابا تعلن في برامجها عدم إيمانها بالعمل البرلماني، وهي لذلك لا تشارك فيه، وتعتمد على العمل التعبوي والشعبي... الخ، هذا ناهيك عن حصار المعارضة إعلاميا. هل هذا يعني ضيق أفق ولا ديمقراطية؟ وهل يعني الرغبة بوجود معارضة ناعمة مجاملة، وغير مزعجة، وليست عبئا على السلطة؟ هل المطالبة بالحقوق تعني الازعاج وعدم الاستقرار؟ كيف يتشكل دورها في صناعة القرار؟ هل عبر آليات متاحة ومنقوصة الإرادة وتخونها قدراتها الاستقلالية كي تفصل في فعل السلطات الثلاث (استجواب الوزراء وقضية التأمينات واللائحة الداخلية لغرفة المجلس التشريعي أمثلة فاقعة في الفترة الأخيرة)؟!
وهذا الحصار أين موقعه من الإعراب، أليس هو ذاته تصعيدا، ماذا يعني منع ضيوف المؤتمر الدستوري وإقامته في الفندق، ومنع دخول رؤساء المعارضة دولة الكويت، وتهديد وزير العمل بإغلاق الجمعيات، أليس هذا الفعل تصعيدا؟ ولعب الجانب الرسمي بالقانون ولعبت المعارضة هذه المرة سياسا وبالقانون بشأن جمع التواقيع على العريضة، وما الذي جرى؟ اعتقال بعض المواطنين، وتلويح بتفعيل قوانين العهد السابق، واتهامات خطيرة لا تنسجم مع جوهر الديمقراطية والحريات العامة، إذ من استخدم خيار المواجهة؟ وكيف تعاملت المعارضة مع هذا التصعيد والخيار غير الديمقراطي؟ ألم تتعامل بهدوء، ودعوة المواطنين إلى التزامه؟ مع أن الباب كان مفتوحا لمبادرات شعبية وبسلسلة من المسيرات والاعتصامات والاحتجاجات، غير أنه جاء قرار المعارضة بالتقنين والاتجاه جهة القانون، الذي اقتصر على احتجاح أهالي المعتقلين، وتشكيل لجان الدفاع والدعم المالي، إذا أين التصعيد؟
وأخطر ما في الأمر تحوّل قضية المعتقلين إلى مساومات من قبل أطراف مختلفة، وكما صرح النائب العام «التراجع عن العريضة أو سحب التواقيع ما قبل 21 ابريل مقابل إطلاق سراح المعتقلين».
حاجز الثقة مع الآخر
وعند الحديث عن حاجز الثقة بين أطراف اللعبة السياسية، يستوجب البحث عن الكيفية التي بها تبنى بها تلك الثقة، وطبعا من جميع الأطراف وليس فقط ما هو مطلوب من المعارضة، وقبل الحديث عن تيار شيعي أو سني أو ديمقراطي وعلماني، نحتاج إلى فهم واقع هذه التيارات جيدا، والحرص على فتح قنوات الحوار والاتصال كي ندرك الكيفية التي يفكر بها الآخرون من دون تعالٍ، وشفافية هواجسنا مطلوبة، والتخفيف من الغلو تجاه من يختلف معنا، أو أخذ مواقف عدائية غير مبررة، فنحن في أول الأمر وآخره مواطنون في مجتمع صغير، تحوطه علاقات اجتماعية وقرابية، وما يسود المجتمعات الأخرى ليس بالضروة له علاقة مباشرة بواقعنا. المعارضة البحرينية لا تقبل واقع الاحتلال لا لوطنها أو لأي شبر عربي، وعليه ليس من الإنصاف توصيف وإسقاط أحوال الآخرين علينا في عملية متعمدة لخلط الأوراق.
إلغاء العريضة
الدهشة تتملك المتابع لشأن العريضة الدستورية، عن الكيفية التي استحضرت فيها الفرضية القائلة: «إن فكرة إلغاء العريضة طرحت في الخفاء نظرا لإحساس المعارضة ان الخارج أصبح لا يدعم توجهات المعارضة...». أن تداول فكرة الإلغاء تم بشفافية بين صفوف القوى المعارضة، وبرزت توجهات تؤيد الإلغاء، وليس كما ذكر من منطلق سحب الخارج ليده: «علما بأن القول في اتهام المعارضة كونها رهينة أيادي خارجية، خطير ويتطلب الإثبات». وهذا التيار من المعارضة لديه مرئيات حول الوضع الداخلي وقراءة خاصة به، ولم يخف ذلك الأمر إذ أعلنه مرارا وتكرارا، ورجحت الكفة بعدها إلى ميزان تدشين العريضة بعد سلسلة من الاجتماعات. أن صدقية تجربتنا الديمقراطية على المحك، وأمام العالم، فهل نعي أبعاد ما تم تداوله، الديمقراطية البحرينية النموذج على المحك... فما قولكم؟
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 620 - الإثنين 17 مايو 2004م الموافق 27 ربيع الاول 1425هـ