فتح ملف حرية الصحافة والتعبير في تونس من جديد. فمناسبة اليوم العالمي للصحافة (3 مايو/أيار) أصدرت «الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان» تقريرها السنوي. وإذ سبق لها أن عنونت تقريرها الأول بـ «الصحافة المنكوبة: تقرير عن حرية الإعلام بتونس»، فإنها اختارت لتقريرها الثاني العنوان الآتي: «إعلام تحت الرقابة». واعتبرت أن الفترة الفاصلة ما بين بداية العام 2003 ونهاية ابريل/نيسان 2004 جاءت «استمرارا للسنوات التي سبقتها فيما يتعلق بأزمة حرية التعبير والصحافة في تونس». كما اتسمت من جهة بـ «تزايد قلق المهنيين والأوساط السياسية والمجتمع المدني لتواصل غياب صحافة حرة وتعددية واستمرار الوضع المهني المتردي على رغم الإجماع الحاصل على المطالبة بتغيير علاقة السلطة بالقطاع».
ومن جهة أخرى «تزايد انشغال المنظمات الدولية المختصة في الدفاع عن الصحافة والصحافيين وحرية التعبير لما آلت إليه أوضاع المهنة الصحافية، وما يعانيه الصحافيون التونسيون من صعوبات وتهميش ومضايقات. وتجسد ذلك في كثير من البيانات والتقارير التي صدرت في هذا المجال خلال العام الماضي. ولم يقف هذا الانشغال عند هذه المنظمات، بل تجاوزها إلى بعض الحكومات الغربية، التي أصبحت بدورها تطالب السلطة بتحرير الإعلام التونسي».
ولا تنفرد رابطة حقوق الإنسان بهذا التوصيف للوضع الإعلامي في تونس، فمختلف مكونات المجتمع المدني أو الطبقة السياسية تعتبر أن الإعلام لايزال يشكل معضلة وعائقا أمام أية محاولة لإحداث تحول ديمقراطي فعلي. وعلى رغم أن جمعية الصحافيين التونسيين يسيطر عليها منذ التسعينات تيار مرتبط بالسلطة، فإنها استعرضت في تقريرها الأخير، الذي صدر قبل أسبوع، عددا من السلبيات التي يشكو منها الإعلام المحلي، بما في ذلك استمرار هيمنة الرقابة. وحتى تتجنب الجمعية أي إشكال سياسي مع الحكومة فقد حملت «كثير الصحف» و«القائمين على التحرير» «مسئولية ممارسة الرقابة» و«سياسة التعتيم على الحوادث».
المسار المتعرج للإعلام التونسي
تاريخيا مر المشهد الإعلامي التونسي بعدة مراحل وتحولات. لقد نشأت الصحافة التونسية منذ نهاية القرن التاسع عشر. وشهدت نموا سريعا وتعددية نشيطة خلال العشرينات، وإلى مطلع الاستقلال. وعندما احتكر الحزب الدستوري بقيادة الرئيس السابق بورقيبة كل أجهزة الدولة، ألغى جميع أشكال التنظيم والتعبير المستقلة، وسيطر على مختلف وسائل الإعلام. ولم تنتعش الحركة الإعلامية إلا مع نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات، عندما استقلت الحركة النقابية بقرارها، وبدأت تتشكل قوى معارضة ذات توجه احتجاجي. ولهذا يكاد يتفق المتابعون بشأن اعتبار تلك المرحلة بمثابة «ربيع الصحافة التونسية» على رغم ما كان يشهده القطاع من عوائق وتعسف. واستمرت حال الانفتاح الإعلامي إلى حدود مطلع التسعينات، ليتقلص هامش التعبير بعد ذلك في أجواء وتداعيات المواجهة بين السلطة وحركة النهضة. فعلى رغم أن خطاب السلطة تغير إذ تبنت مقولات المجتمع المدني والتعددية، فإنها حرصت طيلة المرحلة الماضية على التحكم الشامل في الإيقاع الإعلامي، بشكل أفقد الإعلام المحلي كامل صدقيته، وخصوصا لدى الرأي العام التونسي الذي أصبح ميالا إلى البحث عن المعلومة والرأي المخالف في الفضائيات العربية.
تحركات لمقاومة الاحتكار
لم يستسلم المتمسكون بحقهم في إعلام نزيه وتعددي ومستقل، وخاضوا عدة محاولات وتجارب من أجل إيصال أصواتهم إلى مواطنيهم. كتبوا العرائض، ووجهوا الرسائل المغلقة والمفتوحة، ووزّعوا المنشورات والصحف السرية، وتقدم بعضهم بمطالب للحصول على حق إصدار صحف أو إذاعات خاصة. كما حاولوا مراوغة الرقيب حفاظا على حد أدنى من هامش التعبير. وعندما فشلت كل المحاولات، وبقيت النداءات والمطالب من دون صدى، واستحالت الحركة في الداخل، بحثوا عن بدائل أخرى. منهم من أسس قنوات تلفزيونية خاصة خارج البلاد، وكثير منهم أقام مواقع إلكترونية على شبكة الإنترنت. وعلى رغم أن تلك المحاولات والتجارب لم تؤثر نوعيا على الرأي العام التونسي (باستثناء التجربة المؤقتة التي خاضتها فضائية المستقلة عندما انفتحت عدة أشهر على المعارضة)، فإن الجهات الرسمية عملت على ملاحقة تلك التجارب والتضييق عليها بمختلف الوسائل، بما في ذلك اللجوء إلى الحرب الإلكترونية من أجل غلق تلك المواقع أو الاستحواذ على أرشيفها وقائمات عناوينها، وأحيانا النجاح في تدميرها.
مع أهمية تلك المحاولات التي تنتظر من يوثقها، إلا أنها لم تخفف من أزمة الإعلام التونسي، أو تحدّ من اتساع الفجوة بينه وبين المشهد الإعلامي العربي الذي يعيش حركية ضخمة منذ أواسط التسعينات. لهذا توجه الديمقراطيون نحو طرق أشكال أخرى من الضغط. في هذا السياق تشكلت لجنة وطنية تضم أحزابا وجمعيات مستقلة، دعت إلى تنظيم تجمعين (يومي 13 فبراير/ شباط و27 مارس/ آذار من العام الجاري) أمام مبنى الإذاعة والتلفزيون للمطالبة بحق التونسيين في إعلام ديمقراطي وتعددي. وشكل ذلك تغيرا «نوعيا» في أساليب الاحتجاج لدى المجتمع المدني.
عندما تفتقر الرقابة للمنطق
من الأمثلة التي أوردها تقرير رابطة حقوق الإنسان، وأشار إليها أيضا تقرير جمعية الصحافيين، الشهادة التي وجهها عاملون بمؤسسة «لابريس» الحكومية. ومما ذكروه في رسالة وجهوها لعدد من المسئولين، قولهم إنهم كصحافيين «لم يعودوا يعرفون ما هو مسموح به للنشر وما يندرج ضمن الممنوعات في تناولهم للقضايا الوطنية والدولية». وأضافوا: «من الغريب أن التناول الصحافي لمسائل كانت من البديهيات من قبل أصبحت من باب المستحيلات اليوم، إذ تعمد الإدارة العامة ورئاسة التحرير إلى منع كثير من المقالات من الصدور من دون تعليل أو تفسير أو إعلام الصحافي صاحب المقال في غالبية الأحيان». وذكروا أن المنع طال كثيرا من المقالات الثقافية والرياضية، بما في ذلك «السياسة والأخبار العالمية». فمن بين المقالات التي منع نشرها مقال عن التصفيات الجسدية التي يمارسها جيش الاحتلال الإسرائيلي. وآخر عن تنديد الجمعية العامة للأمم المتحدة بحائط الفصل الإسرائيلي. كما تم منع صريح للإشارة في عناوين المقالات وبرقيات وكالات الأنباء العالمية إلى الخسائر التي تكبدتها القوات الأميركية في العراق، وبصفة خاصة عدد الأموات والجرحى، مع الاقتصار غالبا على عنوان «تصاعد أعمال العنف في العراق». كذلك «منع صريح للانتقادات التي تواجهها الإدارة الأميركية في الداخل والخارج بسبب احتلال العراق». أو «منع نشر صورة جون كيري مرشح الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية الأميركية». وكل ذلك يكشف الحجم الذي بلغته حال الرقابة الذاتية لدى كثير من المسئولين عن مكاتب التحرير في المؤسسات الإعلامية التونسي.
التدخلات الخارجية
الحديث عن وضع الصحافة في تونس أصبح مطروحا أيضا على الصعيد الدولي. فبالإضافة إلى انتقادات كثيرة من المنظمات المختصة في الدفاع عن حرية الصحافة والتعبير، مثل منظمة «مراسلون بلا حدود» التي تتهمها الحكومة التونسية بالتحيز، هناك أكثر من جهة رسمية غربية سمحت لنفسها بإثارة موضوع الإعلام مع السلطات التونسية. وسبق للرئيس الأميركي أن تناول هذا الموضوع بالذات خلال محادثاته مع الرئيس زين العابدين بن علي في زيارته الأخيرة إلى واشنطن. وأعلن بوش أمام الصحافيين بأنه كان سعيدا للتحاور مع الرئيس بن علي «بشأن ضرورة وجود صحافة حية وحرة وعملية سياسية منفتحة».
وأعرب المتحدث باسم الخارجية الأميركية ريتشارد باوتشر عن أسف الإدارة الأميركية لرفض الحقوق الأساسية للصحافيين في كثير من بلاد العالم، وأدرج تونس ضمن لائحة تضم الصين وبورما والسودان. وهو ما أثار احتجاج السلطات التونسية، إذ اعتبر السفير التونسي بواشنطن أنه «من الظلم إدراج تونس في لائحة البلدان التي تنتهك حرية الصحافة».
كما قررت من جهة أخرى الفيدرالية الدولية للصحافيين أخيرا تجميد عضوية الجمعية التونسية للصحافيين، بعد أن سبق للجمعية العالمية للصحف أن علقت في شهر مايو/ أيار 1996عضوية «الجمعية التونسية لمديري الصحف». وفي كلا الحالتين تم اتهام المنظمتين التونسيتين بالتقصير في الدفاع عن حرية الصحافة والصحافيين. وإذ تجاهل أصحاب الصحف قرار الطرد، فإن مكتب جمعية الصحافيين يحاول جاهدا تدارك الأمر خلال المؤتمر المقبل لمنظمة «فيج»، وذلك من خلال القيام بمساع وتحركات ومبادرات «محسوبة» بهدف استعادة الموقع والثقة. وسبق أن كانت جمعية الصحافيين التونسيين عضوا رياديا وقياديا بهذه المنظمة العالمية التي تضم نصف مليون صحافي، يوم كان يتولى قادتها صحافيون مستقلون.
ويعتقد البعض أن أزمة الإعلام في تونس أزمة هيكلية، ولكن من المؤكد أنه في حال إطلاق الحريات وتحمل الصحافيين التونسيين مسئولية الدفاع عن مهنتهم، فإن مشهدا إعلاميا جديدا يمكن أن ينبثق في فترة وجيزة. هذا ما يعتقده الكثيرون، وذلك بناء على وجود الكفاءات التي اضطر بعضها للهجرة، إلى جانب توافر التقاليد المهنية. وإذ بدأت السلطة تغض الطرف عن بعض صحف المعارضة على رغم لهجتها النقدية، وأخذت تتخلى عن احتكار ملكية الإذاعات والقنوات التلفزيونية، فإن منظمات المجتمع المدني تعتقد بأنه مع أهمية هذه الخطوة، فهي لاتزال تخضع للانتقائية والفرز السياسي، وتستوجب إجراءات أكثر دلالة وجرأة
العدد 620 - الإثنين 17 مايو 2004م الموافق 27 ربيع الاول 1425هـ