كانت التركة السياسية والفقهية والاجتماعية للسيد محمد محمد صادق الصدر المُلقّب بـ «الصدر الثاني» ثقيلة جدا؛ وخصوصا أنها مليئة بالمزدوجات والمواقف الجدلية الطارئة على الساحة الشيعية، فالرجل وُسِمَ في مرحلة ما بعد انتفاضة شعبان 1991 بأنه رجل عميل لنظام البعث الإرهابي الذي مال هو الآخر صوبه عندما رأى فيه موقفا متشددا من الثوار والمدنيين الذين احتموا بحرم الإمام علي (ع) بمدينة النجف الأشرف خشية البطش الهمجي الذي قامت به القوات البعثية ضدهم بعد اتفاق «خيمة صفوان» بين قائد عملية عاصفة الصحراء الجنرال الأميركي نورمان شوارتسكوف وبين وزير الدفاع البعثي السابق سلطان هاشم سلطان وعضوية كل من الفريق صلاح عبود والفريق نعمة المحياوي والسماح للطيران العراقي بالتحليق فوق المناطق المنتفضة والثائرة في الجنوب. وعلى رغم أن حصيلة القتلى كانت فلكية إذ تجاوزت الـ 500 ألف إنسان من شيعة العراق واعتقالات بلا حساب آلت معظمها إلى المقصلة وتدمير هائل في الأبنية والمنازل، استمر الصدر الثاني في نعته للمحتمين بالحرم «بالكفار»، وكان ذلك انتصارا وتفويضا بالمجان للبعثيين لكي يفعلوا ما يشاؤون بغنائمهم البشرية .
وقد أعلنت السلطة البعثية فيما بعد أن السيد محمد محمد صادق الصدر هو المرجع الأعلى للشيعة في العالم وزعيما مطلقا لحوزة النجف العلمية، وأحسب أن الرجل لم يُعارض ذلك بل زاد عليه عندما دخل في مماحكات لا طائل منها مع مرجعية ومدرسة السيدالخوئي، مُتهما الأخير بأنه «سرق المرجعية منه» وأنه ليس من سلالة الرسول بل تقمصها زورا !!
أما على المستوى الفقهي فلا يمكن لأحد أن ينكر أن الرجل أبدع فيه بتميز وخصوصا في موسوعته الضخمة المُسماة «ما وراء الفقه» وبحوثه الجديدة في الفضاء والإنسان وقبائل الغجر، كما أنه آمن بنظرية ولاية الفقيه ولكن بنسق آخر وهو تمثّلها في شخصه وقد صرّح بذلك جهارا عندما كان يقول إنه «أعلم من في الكرة الأرضية»!
وعلى المستوى الاجتماعي كانت حركته فوَّارة ونشِطَة، واستطاع أن يصل إلى القشرة الصلبة لعشائر الفرات والفرات الأوسط وسائر العراق ويتذارر معها بما فيها العشائر السُنية، وكانت وشائجه، قد تعمّقت فيهم بالمصاهرة والإغداق المادي، حتى استطاع أن يُكوِّن لنفسه تيارا جماهيريا قويا بدأ في التعاظم بشكل مُلفت، الأمر الذي حدا بنظام صدام حسين لأن يشعر بمزاحمة سياسية لسلطته ويُقرر اغتياله في العام 1999 وضرب تياره وتشطيره، وهو ديدن البعث ومنهجه في ضرب معارضيه منذ مجيئه نهاية الستينات، وقد تسبب اغتياله في انشطار أتباعه إلى سماطين متباينين الأول بزعامة الشيخ محمد اليعقوبي أحد أبرز تلامذته وُمقرر أبحاثه ووُسِمَ بأنه خط معتدل، والثاني بقيادة مقتدى الصدر الابن الرابع وغير المُحبَّب للصدر الثاني، وكان ذلك الفرز الجديد للتيار الصدري (الذي لا تحكمه أصول التشكيلات التنظيمية) بمثابة التصعيد المنهجي لأفهام التشدد وبروز أصولية متطرفة، وقيمومة غير رشيدة على شئون البلاد والعباد، فتم استقطاب همج القوم ورعاعهم وأقلهم حظوة في الدين والعلم، ثم امتزجت العنصرية والقبلية في شخصية الصدر الابن وظهرت بجلاء نظراته الضيقة وغياب المشروع والهدف وهلامية الشعار وفجاجة الخطاب ودونية السلوك، ولم تعد تحكمه مرجعية سياسية ولا دينية ولا فكرية. وحتى شخصية آية الله كاظم الحائري التي كان يُشيد بها الصدر الأول والثاني لم تستطع أن تحتويه أو تُشذّب حركته أو تعقّلها.
وعندما أراد قادة الجمهورية الإسلامية في ايران أن يقوموا بعملية ترويض للصدر الابن لم يستطيعوا على رغم أنهم قدموا إليه دعوة رسمية لزيارة إيران وحضور مراسم ذكرى الخامسة عشرة لرحيل الإمام الخميني (رض). كما لم تُفلح مساعيهم لرأب الصدع بينه وبين مرجعيات النجف الكبرى أو بينه وبين المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق بزعامة الشهيد محمد باقر الحكيم .
المشكلة الحقيقية التي يعاني منها التيار الصدري الآن هي أنه لم يدخر لنفسه ركنا وثيقا يلجأ إليه في شدته، فعائلة الخوئي موتورة منه بقتل ابنها العائد على الدبابة الأميركية والمطالبة بدمه (على رغم أن هذه المطالبة قد جُمِّدت في الوقت الحاضر من قبلهم بعد تدخل أحد مرجعيات النجف الدينية).
والسيدالسيستاني يعيش جفاء تجاهه بل وحربا باردة غير مُعلنة، كما أن فيلق بدر ومجلسه الأعلى للثورة الإسلامية في العراق لن يغفر له اتهامه منتسبيه بأنهم من الأجانب والغرباء، وحزب الدعوة هو الآخر كذلك. ثم انه لا يرتبط بإيران بأية وصلة سياسية أو فقهية قد تُسعفه في الوقت الحرج، ولم يبق له سوى اللجوء إلى خياراته المتهالكة، أفضلها حالا جيش المهدي الذي أسسه بمزيج من فسيفساء المجتمع العراقي بمن فيهم البعثيون
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 620 - الإثنين 17 مايو 2004م الموافق 27 ربيع الاول 1425هـ