تستغرب «المعارضة المتأمركة» في المنطقة العربية أسباب إنفاق واشنطن كل تلك الأموال الطائلة على الدفاع والأمن والحروب بذريعة مكافحة «الإرهاب الدولي» أو «تحسين صورتها» أمام العالم في وقت تبدو غير مضطرة لكل هذا الجهد العسكري في حال أحسنت استخدام الثروات النقدية في برامج مساعدات وتنمية لشعوب العالم الثالث.
هذا النوع من الاستغراب الذي يطرحه «المتأمركون» العرب يختصر الكثير من الاجوبة. فالسؤال فعلا: لماذا؟ لماذا تنفق الولايات المتحدة قرابة 400 مليار دولار سنويا على الدفاع لإنتاج كميات من الأسلحة يرجح أنها لن تستخدمها الا لاستعراض قوتها أمام شعوب العالم؟ فالقوة الأميركية الآن كافية لردع معظم الدول الكبرى التي لا يبدو أنها في حال استعداد لمواجهة واشنطن على الأقل في العقود القليلة المقبلة. فلماذا توظف ثروات هائلة في قطاع عسكري (التصنيع الحربي) وتتردد في تقديم مساعدات لشعوب تعاني الجوع والفقر والأمية والأمراض. فالولايات المتحدة مثلا زادت من انفاقها العسكري وقلصت برامجها للمساعدات الخارجية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الاشتراكي في وقت كانت التوقعات ترجح تقليص الانفاق العسكري وزيادة برامج المساعدات للدول المحتاجة والنامية.
كل التقديرات السياسية لم تكن صحيحة منذ حصول التحول الكبير في العلاقات الدولية في تسعينات القرن الماضي. فالتقديرات ربطت بين الانفاق العسكري ووجود خطر محتمل من القوات السوفياتية والمعسكر الاشتراكي. وبررت تلك الآراء الانفاق بأنه وسيلة دفاعية اضطرت لها واشنطن لحماية أمنها الوطني والدفاع عن أوروبا في حال تعرضها للاجتياح.
وحين تغيرت الحال اتجهت تلك التقديرات إلى ترجيح احتمال تراجع الانفاق العسكري مقابل نمو برامج المساعدات نظرا إلى الوفر المالي الذي حققته واشنطن في غياب المنافس الدولي والضغوط التي كان يمارسها لدفعها نحو السباق على التسلح.
أخطأ المحللون في تقديراتهم وحصل العكس تماما. وكل المؤشرات تدل الآن على أن الانفاق العسكري بلغ معدلات غير مسبوقة في تاريخ أميركا وأن المساعدات تراجعت بطريقة عشوائية أسهمت في توسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء في العالم. إفريقيا مثلا بحاجة إلى مساعدات سنوية لا تزيد على 40 مليارا من الدولارات لمدة عشر سنوات لتطويق المشكلات الناجمة عن الجفاف وتغير البيئة والصعوبات الاجتماعية الناجمة عن تراكم الديون بسبب تفاقم العجز في ميزان المدفوعات والتبادل التجاري.
400 مليار تنفق على عشر سنوات تنقذ قارة من الجوع والتخلف والحروب الأهلية (القبلية) وتعيد وضعها على سكة النمو والتقدم. وهذا المال موجود في دول الشمال (الولايات المتحدة وأوروبا) ومع ذلك تحجم عن استثماره في قارة مشهورة بخصوبة أرضها وغناها بالثروات الطبيعية والخامات.
المشكلة هنا. فالمسألة ليست في المال بل في عدم استعداد دول الشمال (أوروبا وأميركا) للتضحية بثروات جاءت أصلا من إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية وإعادة استثمارها أو توظيفها لوقف الأمراض والحد من الجوع والموت والنزف الدائم في القوة البشرية (الحروب والهجرة).
والمشكلة أن أميركا تنفق سنويا 400 مليار دولار على تضخيم قوتها العسكرية وترفض توظيف 40 مليارا في إطار خطة دولية للتنمية تشرف عليها مؤسسات الأمم المتحدة. وأوروبا في هذا الحقل ليست أفضل من الولايات المتحدة، فهي تمارس أبشع الضغوط على دول إفريقيا الفقيرة لتسديد ديونها وفوائد ديونها في وقت تبحث تلك الدول عن مصادر لثروتها ولا تجدها بسبب سيطرة الشركات المتعددة الجنسية على الخامات والمواد الطبيعية (استخراج وتصدير وإعادة إنتاج ثم إعادة تصديرها).
«المتأمركون» يتساءلون: لماذا تنفق أميركا 40 مليارا لتدمير أفغانستان و80 مليارا لتدمير العراق و54 مليارا لتغطية نفقات الاحتلال ولا تكسب في النهاية سوى المزيد من العداء والكراهية، بينما كان بالإمكان استخدام تلك الثروات (174 مليارا) لكسب ود إفريقيا ومحبة شعوب العالم ومن بينها الشعوب العربية في حال وظفت أو أنفقت على مشروعات التنمية والتطوير والتحديث؟
هذا النوع من الأسئلة لا جواب له في أنظمة قامت أصلا على أيديولوجية السيطرة ورفض المساواة واحتكار الثروة وتخزينها والتنافس عليها للمزيد من الاحتكار والسيطرة واكتناز الثروات.
استغراب «المعارضة المتأمركة» ليس في محله. ومن يرى أن هناك فرصة للاستفادة من الولايات المتحدة عليه بقراءة تاريخ أميركا أو تجربة حظه في سجن «أبوغريب»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 619 - الأحد 16 مايو 2004م الموافق 26 ربيع الاول 1425هـ