في تقرير لمجلة «نيو ساينتيست» NEW SCIENTIST البريطانية (نقلته صحيفة «الشرق الأوسط» في 15 مايو/ أيار) ورد أن الخبراء الذين شاهدوا صور التعذيب في سجن «أبوغريب» اعتبروا أنها لم تكن لتجري من دون علم الضباط الكبار، وأنها كانت مدروسة مسبقا، وأن الذين قاموا بها اعتبروها أمرا اعتياديا إلى الدرجة التي صوروا أنفسهم وهم يعذبون المعتقلين العراقيين. وقال التقرير إنه لا يمكن لما حصل أن يكون عملا لمجموعة صغيرة تصرفت بحسب ما شاءت، وإنما كان نتيجة توجيه من قيادات عليا وتدريب لمن قام بالتعذيب.
على أن «التعذيب» يمثل الاختبار الحقيقي لأية ثقافة. والإنسانية شاهدة في تاريخها على أن ممارسة هذه الأنواع من التعاملات مع البشر تعني نهاية مأسوية لثقافة الذي يقوم بالتعذيب. الديمقراطية الغربية قامت على مفهوم «الدستور»، والدستور يعني وضع حد للسلطة والتسلط، وأسوأ أنواع التسلط هو عندما يقوم شخص بتعذيب شخص آخر، ولهذا السبب أفردت الأمم المتحدة اتفاقا خاصا لمكافحة جميع أنواع التعذيب وإهانة الإنسان، معتبرة أن قيام أية جهة بالتعذيب ضد أي شخص تحت أي عذر اعتداء على الإنسانية.
الغرب طرح مفهوم «الاعتداء على الإنسانية» منذ زمن طويل، معتبرا أن عدم الاهتمام بهذا البعد يؤدي إلى محارق هتلر وإلى الحروب المدمرة وإلى المآسي، ولكن الغرب ذاته فشل في أماكن وأزمان متكررة في أن يكون مخلصا لهذا المبدأ، ولذلك فإنه متهم بالانتقائية أو باعتبار الناس الآخرين أقل استحقاقا للعيش بكرامة. وهذا هو المطب نفسه الذي وقع فيه هتلر عندما اعتقد بأن أي شخص ليس ألمانيا (من الدم الآري) لا يستحق العيش إلا إذا كان خاضعا لـ «السوبرمان» الألماني. ولو أن هتلر انتصر في حرب العلمين فلربما أحرق نصف العرب تماما كما أحرق اليهود والغجر والشيوعيين والبولنديين من شتى الأصناف.
المعذب - ولكي يعذب - يلزمه أن يؤمن بأن حياة الغير لا قيمة لها، وهذا الإيمان «عدمي»، لأنه ينظر إلى الحياة على أنها «عدمية»، وأن الجميع سينتهي إلى «العدم»، ولذلك فلا بأس إذا تصرّف في شيء «معدوم» في نهايته من دون قيمة إنسانية ذاتية، أو قيمة ممنوحة من الله إلى الإنسان، وبالتالي لا يحق لأحد أن يتصرف فيها.
الفلسفة العدمية، أو ما يطلق عليها في الغرب بـ NIHILISM تنكر أية قيمة للإنسان، وتدعم مفهوم «البقاء للأقوى»، وهو مفهوم استخرجه بعض الأوروبيين من نظرية داروين، ونقلوه من نظرية «التطور» إلى الحياة الاجتماعية. هذه الفلسفات تعشعش في الثقافة الغربية، وهي السبب في عدم انتشار الديمقراطية إلى الدول التي تسيطر عليها الدول الأوروبية سابقا وأميركا حاليا، بالشكل الصحيح.
الفلسفتان: العدمية والبقاء للأقوى تؤديان إلى الانتقائية في تطبيق مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتؤديان في النهاية إلى الانهيار المعنوي للقوة الغالبة ماديا. وهذا ما نشاهده هذه الأيام، فالأميركان الذين أرسلوا أبناءهم وبناتهم إلى العراق لم يتصور أكثرهم أن هؤلاء الأبناء والبنات سيمارسون - باسم الديمقراطية - التعذيب وإهانة الإنسان. والصدمة كبيرة جدا وتبعاتها سنراها خلال الأشهر والسنوات المقبلة، لأنه ومهما قيل عن محاسبة الذين عذبوا، فإن الضرر الأكبر قد حدث، ويتمثل في انهيار الجانب المعنوي والأخلاقي، الذي من دونه تصبح القوة العظمى بيتا من عنكبوت
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 619 - الأحد 16 مايو 2004م الموافق 26 ربيع الاول 1425هـ