في انتخابات الرئاسة الإيرانية الأولى التي جرت في يناير/ كانون الثاني العام 1980 بين كل من قائد البحرية أحمد مدني (فرّ فيما بعد إلى الخارج)، والنائب الأول لرئيس الجمهورية في عهد الشيخ الرفسنجاني حسن حبيبي، ورئيس المحاكم الثورية آية الله صادق خلخالي، ورئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون السابق صادق قطب زادة، وأبوالحسن بني صدر فاز الأخير بـ 10 ملايين و 709 آلاف و 330 صوتا من أصل 14 مليون و 146 ألفا و622 صوتا، وقد طرح آنذاك السؤال الآتي: لماذا فاز بني صدر في الانتخابات؟ وبهذه النسبة الساحقة؟ وهنا يجب أن نحكي الحكاية: فقبل الانتخابات بأيام قَصَدَ بني صدر بيت الإمام الخميني (مُلهِب الجماهير ومُثَورها) وقبل دخوله إلى البيت، التفت إلى الصحافيين وقال إنه سيخوض الانتخابات بعد أن يستذوق رأي «إمام الامة» في ذلك. وفي صبيحة اليوم الثاني نشرت الصحف الإيرانية والعالمية صورا لبني صدر وهو جالس بجانب الإمام، وكانت تلك الصورة هي بمثابة الحملة الانتخابية الأكبر في الوسط الشعبي الإيراني التي رفعته «بمسحة سحرية» إلى سدة الحكم على رغم الخلاف الغائر والمتفجر الذي كان بينه وبين الشهيد بهشتي بعد جلسة مجلس خبراء القيادة الأول.
ما أريد أن أستله من تلك الحادثة هو ما تُحدثه الصورة من تأثير، الصورة التي هي ذلك الشكل البصري الذي يراه الإنسان ويتفاعل معه ويتأثر به ويغضب ويثور من أجله ويرهب منه، وقد كان للحضور الفني والتجاري الأميركي في وسائل الإعلام منحاه الملتوي الذي هز جنبات العالم بأقوى تمظهرات الصور التي ترقص على أوتار الإمبراطورية الأميركية التي امتهنت (وتمتهن) تنميط العالم بحياة براغماتية ليبرالية تخضع بجشع متوحش للمال والسطوة الإمبريالية. ولا أجدني هنا إلاّ أن استحضر توصيفا من الإمام الخامنئي لتلك الامبراطورية بأنها «جبل من جليد سيذوب حتما».
كانت الولايات المتحدة الأميركية اعتمدت التسريب اللاشعوري المرتكز على مساقات التكرار والإصرار على الطرح والأفكار بغرض نحت وحفر صورة ذهنية مثبتة في العقول، لتظل كامنة في الوجدان البشري، ثم تظهر وتبرز عند وجود مثير بصري أو لفظي قد تخلقه هو أيضا لتكتمل دائرة التأثير.
وفي عملية تشذيب مُحكّمَة للصورة بدأ الممتهنون لها في استوجاب أن تكون مُبرزة لوضعية الشخوص والمنظر الذي تعبّر عنه من خلال إسقاطات الضوء أو تناغم الألوان أو في إخفاء لمسة معينة تؤثر في حركة الصورة إن كانت ثابتة، لتظهر حدثا محددا له خلفية مستهدفة وغرضية، كما أن المعايير العشرين التي منها الانطباع العام والتوليف وتوازن الألوان وتناسقها وحركة الصورة ومضمونها المحكي والإبداع في التعامل بدأت في الظهور بشكل واضح، لذلك فقد أصبح تأثيرها شديدا ووقعها غائرا.
إلاّ أن تلك الثقافة الصوروية بدأت في الشياع ليس في مختبرات صانعيها فقط، بل أصبح الجميع يعي قوتها وسحريتها الفعالة، فغزتها مؤسسات السياسة والاقتصاد والأعمال الإنسانية حتى استطاعت تلك الصورة أن تُخرج أكثر من 400 ألف إسرائيلي إلى شوارع تل أبيب منددين بجريمة مجازر صبرا وشاتيلا التي قدمتها الصورة بحال تراجيدية نوعية، على رغم أنها لم تكن تحتاج لأكثر من سليقة الحدث، ثم أن الصورة ذاتها جعلت من الطفلة العراقية مريم التي أصيبت بمرض سرطان الدم (اللوكيميا) تحرك الشارع البريطاني والعالمي ضد الحصار الاقتصادي الظالم والجائر على العراق، وتبدأ عملية فرز سياسي في لندن وفي أوروبا القديمة لطبيعة العلاقة مع الثقافة والسياسة الأميركية .
ويبقى السؤال في الختام: كيف بدت مشكلات ومآسي العالم العربي في إعلامنا المرئي، وكيف هي أحجام التعاطي الرسمي والشعبي التي أفرزتها تلك الآلية؟ وهل استطاعت البلدان العربية وشعوب تلك البلدان أن تُجير سطوة الإعلام والصورة لصالح قضايا الإنسان العربي وتنتصر له؟!
إنني أعتقد بأن ذلك حصل فعلا بفضل «الإعلام الجزيري» لأن الحنق الذي أبداه رامسفيلد وآرميتاج على قناة الجزيرة القطرية هو الجواب على ما نسأل. لقد باتت قناة الجزيرة بصوتها وصورتها حاجة العرب الأساسية الآن، ثم إنني لا أبالغ إذا استعرت كلمة لأحد قيادات حزب الله في لبنان الذي قال مرة: «لو لم يوجد حزب الله لوجب ابتداعه» لأقول «لو لم تُوجد قناة الجزيرة لوجب ابتداعها»
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 615 - الأربعاء 12 مايو 2004م الموافق 22 ربيع الاول 1425هـ