العدد 615 - الأربعاء 12 مايو 2004م الموافق 22 ربيع الاول 1425هـ

القصف الإعلامي الأميركي المضاد

بعد فضائح التعذيب

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

يجب أن نعترف أولا بأنه لولا الصحافة الأميركية والاعلام الشرس، لما عرفنا شيئا عن فضائح التعذيب وفظائعه، في المعتقلات الأميركية في العراق، التي تزدحم بعشرات الآلاف.

ويجب ان نعترف ثانيا بأن اتساع وتضخم فظائع التعذيب في سجن «أبوغريب» وغيره، داخل العراق، جعلا من الفضيحة المدوية كرة ثلج كبيرة تكبر كلما تدحرجت، حتى اصطدمت بالبيت الأبيض وساكنه الرئيس بوش، بعد ان صدمت وزير دفاعه رامسفيلد وجنرالاته.

ويجب ان ندرك ثالثا، ان آلاف الصور والأفلام المصورة، عن سادية التعذيب الأميركي للمعتقلين والأسرى العراقيين لا تكشف كل الحقيقة حتى الآن، التي يبدو انها أكبر. وان المخبوء والمسكوت عنه أفظع، فهذه على كل حال طبيعة الاحتلال الأجنبي ونوعية سلوك عساكره الذين أتوا الى العراق، وهم مشبعون بروح العداء والكراهية للعراق، بل وللعراقيين وازدادوا عنفا وشراسة بعد ان فاجأهم العراقيون بالمقاومة الحادة، ولم يقابلوهم بالورود كما قيل لهم من قبل!

ويجب ان نقرر رابعا ان أهوال التعذيب هذه، المسجلة بالصوت والصورة، ليس بواسطة «عملاء عراقيين اندسوا داخل زنازين السجن، ولكن بواسطة فرسان التعذيب المصابين بسادية معبأة بالشذوذ، تشكل كل الأركان القانونية والانسانية المتكاملة لجريمة الحرب، التي يمنعها اتفاق جنيف للعام 1949، وخصوصا في مادتها الثالثة عشرة المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب والمعتقلين.

ولا معنى هنا، للادعاء بأن مرتكبي هذه الجرائم في حق الشعب العراقي، بل في حق كل العرب، لن تطولهم العقوبات الدولية، لأن أميركا حصنت نفسها بعدم الانضمام أو الاعتراف بمحكمة جرائم الحرب الدولية، وحصنت جنودها باتفاقات ثنائية مع دول عدة، ولكن ان هربوا من المثول أمام هذه المحكمة، فلن يهربوا من محاكم أخرى، أهمها محكمة الضمير الإنساني الذي يتحدث عنه المسئولون الأميركيون كثيرا، ولن يهربوا من أحكام الإدانة التي لطختهم ولطخت تاريخ قادتهم، من جانب شعوب العالم، والشعب الأميركي في المقدمة.

ومن معتقل «غوانتنامو» الأميركي الشهير على سواحل جزيرة كوبا غربا، الى سجن «أبوغريب» في العراق شرقا تجري الآن واحدة من أكبر «مذابح الديمقراطية» في العالم، على أيدي دعاة الديمقراطية، الفارق الرئيسي هو ان سادية سجاني «أبوغريب» دفعتهم الى ارسال الصور والأفلام الفاضحة عبر ثلاث قارات وعدة بحار ومحيطات إلى ذويهم فأصدقائهم، ربما من باب الفكاهة والسخرية والتسلية، وربما من باب التعمد... تعمد تسريب هذه «البطولات المشينة» الى كل الآفاق، أما ما يجري في معتقل غوانتنامو فلايزال طي الكتمان، وحتما سينفجر غدا أو بعد غد!

المضحك المبكي في هذه الدراما السوداء محاولة البعض تبرير الجريمة المروعة ضد الانسانية في حين تجبر آلية المساءلة والمحاسبة في المجتمع الأميركي، الرئيس بوش ووزراءه وقادته على الاعتراف، ثم الاعتذار وابداء الأسف مع الاستعداد لدفع التعويض المالي!

من باب التبرير المستنكر ان يقول رئيس وزراء بريطانيا طوني بلير، إن ما جرى مدان، ولكن هذه هي الحرب التي ذهبنا اليها - هو وبوش - ونحن نؤدي في العراق «عملا رائعا حقا» - فأي عمل رائع هذا!

ومن باب التهوين المزري يخرج علينا واحد من عتاة المتأمركين العرب، ليقول بكل استهتار، ان ما جرى على أيدي بعض الجنود الاميركيين في سجن أبوغريب، جرى أكثر منه في عصر صدام حسين، وكأن المطلوب منا ان نتقبل الجريمة البشعة من هذا وذاك فطالما فعلها صدام من قبل، فلماذا لا يفعلها المارينز الآن!

ولا تعليق...

بصرف النظر عن هذه التفاهات فإن العالم كله مصدوم بجريمة حرب وانتهاك للانسانية وفضيحة اخلاقية، وثقها فرسانها وغرسوها كالسهم المسموم في ضمير البشرية وخصوصا تلك المتقدمة المتمدينة المتحضرة، التي شنت الحرب ضد العراق، باسم الحرب الشريفة النظيفة ذات المهمة الرسولية المقدسة ضد كادر الشر، ولكن هذه الحرب بدأت في عامها الثاني، تنتج أقبح ما تفرزه الحروب الوحشية، وكأن التدمير الشامل المنظم، للعراق بأحدث أنواع الأسلحة التكنولوجية، لم يكن كافيا، فجاء التدمير الأشمل والأكثر تنظيما للنفس والشخصية العراقية، بالاهانة والاذلال والاغتصاب الجنسي السادي الشاذ.

فهل يكفي الأسف والاعتذار الإعلامي الدعائي؟!

الحقيقة الواضحة أن سياسة قهر النفس والشخصية العراقية وتعمد اذلالها، بدأت منذ لحظات الغزو الأولى وسيطرة قوات الاحتلال فما كاد العراقيون يتخلصون من قهر صدام حسين وحكمه الدموي حتى جاءهم قهر الاحتلال وزبانيته، فمنذ الاسبوع الثاني بدأ العراقيون في الشارع يشكون من سلوك جنود الاحتلال الفظ ومعاملتهم القاسية وصولا لتعمد اهانة النساء المحجبات بتفتيشهن بأيدي الجنود امام رجالهم في وضح النار، فما بالكم بما جرى للأسرى والمعتقلين وراء الأسوار العالية وفي الزنازين المظلمة؟

لذلك يجب ان نشكر بكل أسف وحزن هؤلاء السجانين الذين تلذذوا بتصوير بعضهم بعضا، وهم يعذبون المعتقلين العراقيين فلولا هذه الصور التي تسربت بطريقة أو بأخرى لما عرف العالم شيئا عما جرى ويجري في الداخل تماما مثل كل السجون والمعتقلات في بلادنا وغيرها، ولما اكتشف الشعب الأميركي اليوم، أن تاريخه القديم وغير المشرف يتجدد بعد طول نسيان، نعني ما فعله الاميركيون الاوائل «الرواد» من نهب واغتصاب واذلال وإبادة للهنود الحمر أصحاب الأرض الاميركية الأصليين مرورا بما جرى حديثا في استعمارهم لليابان وحروبهم غير الشريفة في كوريا وفيتنام وفي معظم أميركا اللاتينية، وصولا للعراق وأفغانستان!

الآن... انكشفت العورة وظهرت الفضيحة للعالم، وكبرت كرة الثلج الملوثة، حتى اصطدمت بقمة السلطة، فزادتها ارتباكا حاولت في البداية التعتيم واسدال ستائر الكتمان، على مدى شهور طويلة، اذ اعترف المسئولون الكبار بوزارة الدفاع بأن بعض صور التعذيب بدأت تصلهم منذ النصف الثاني من العام الماضي، ولكن هيهات لمثل هذ الجرائم ان تختفي في عصر الاعلام والمعلومات وتكنولوجيا الاتصال والسباق الهائل على كسب الجمهور، ومرة أخرى يجب ان نشيد بالصحف ومحطات التلفزيون الأميركية والبريطانية، التي كانتش السباقة إلى تعرية الأسرار الشريرة المجنونة!

وقد أدى هذا كله الى رد فعل على جبهتين مخدرتين ناقض كل منهما الآخر... على الجبهة الأميركية وادارتها الحاكمة، المضبوطة متلبسة بتهم قانونية، وأخلاقية «تجلب العار للشعب» على حد قول احدى الصحف الأميركية، سارع المسئولون الى الاعتراف بعد الافتضاح، ومع الاعتراف قدموا الأسف والاعتذار مصحوبا بالتفسير والتبرير غير المقنع، فاضطر الكونغرس إلى عقد جلسات استماع هي في الحقيقة جلسات استجواب لوزير الدفاع وقادة جيوشه.

وعلى الفور بدأ الرئيس بوش وأركان حكمه حملة اعلامية دعائية واسعة، فكما سبق ان استخدموا القصف الصاروخي المكثف ضد العراق وأفغانستان عن طريق الافراط في ممارسة القوة المسلحة، بدأوا القصف الاعلامي المكثف، لاستعادة الصدقية والشعبية بين الرأي العام الأميركي الغاضب والمتقزز من هذه الجرائم من ناحية، ولتهدئة الغضب العراقي والعربي، ومواجهة تصاعد الكراهية في الساحة الاسلامية والعربية من ناحية أخرى.

هكذا نحن الآن تحت القصف المفرط في القوة بهدف عاجل هو تحسين الوجه القبيح الملوث بفضائح تعذيب الأسرى واغتصاب المعتقلين العراقيين، أما الهدف الآجل فهو استعادة صدقية المرور، «وربما الصداقة» الاميركية التي فقدتها في العالمين العربي والاسلامي.

ولعل إدارة الرئيس بوش هي التي سعت الى اضاعة هذه الصدقية وانظر في الاسباب الآتية:

أولا: ضمانات بوش لشارون التي تنتهك الشرعية الدولية وتغتصب ما تبقى من حقوق للشعب الفلسطيني وهو ما تحاول إدارة بوش تلوينه وتحسينه الآن بضمانات أخرى ، ولا أقول مضادة، وثانيا: الحرب القيصرية في العراق، التي توسعت الآن عن بداياتها، فاصطدمت بالشعب، ومارست ولاتزال ممارسات «إسرائيل» في الأرض المحتلة، من تدمير للمدن والقرى وقتل عشوائي بالمئات والآلاف، وتعمد لاهانة بسطاء الناس، ناهيك عن فظائع التعذيب في المعتقلات والسجون، وثالثا: التداعيات السلبية الكثيرة للحرب التي تشنها ضد الارهاب والتي تحولت في نظر الشعوب العربية والاسلامية الى حرب ضد الاسلام والعروبة، ورابعا: ابتزاز الدول العربية باسم الاصلاح واطلاق الديمقراطية واحترام حقوق الانسان وها هي تفعل نقيض ما تطالب الآخرين به.

وكلها أمور فاقمت من تدهور سمعة أميركا وزادت من كراهية لها في المنطقة.

أما على الجبهة العربية، فكان الصمت العاجز هو البطل المتوج، والصمت الشعبي ناتج عن احساس دفين بالعجز عن مواجهة الاذلال والاهانة، أما الصمت الرسمي فناتج عن خوف من فتح ملفات التعذيب في السجون العربية، وفيها ما فيها من أهوال وفظائع، يعرف العارفون ان أميركا بالذات تعرف عنها أكثر مما يعرفون فكيف يمكن لهم ان يصرخوا حتى بالاحتجاج العلني «كما فعلت فرنسا وروسيا مثلا، والأجهزة الأميركية تملك كل وثائق الاتهام!

خير الكلام: من أمثالنا الشعبية:

لا تعايرني وأعايرك، المهم طايلني وطايلك

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 615 - الأربعاء 12 مايو 2004م الموافق 22 ربيع الاول 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً