أخيرا... خرج مسئول كبير في الحكومة الألمانية عن الصمت الرسمي وانتقد علنا ممارسات تعذيب المعتقلين العراقيين في سجن أبوغريب. نتيجة للضغط الذي صدر عن حزب الخضر الشريك الصغير في الائتلاف الحاكم بألمانيا. وطالب وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر بمعاقبة العسكريين الأميركيين المسئولين عن هذه الممارسات التي يعتبرها كثيرون جرائم حرب لأنها تمثل خرقا واضحا لاتفاق جنيف المتعلق بأسرى الحرب والتي تنص على معاملة أسرى الحروب معاملة إنسانية تحفظ لهم كرامتهم. لكن ما إذا فيشر سيوجه انتقادات إلى الأميركيين بصورة مباشرة حين يجتمع هذا الأسبوع في واشنطن مع نظيره كولن باول الذي يشاع أنه يشعر بالملل من منصبه، وكذلك مع مستشارة البيت الأبيض للأمن القومي كوندليزا رايس، فإن غالبية المراقبين هنا لا يتصورون أن فيشر الذي يسعى مثل رئيسه المستشار غيرهارد شرودر إلى إصلاح الأمور مع واشنطن بعد التوتر الذي طرأ على العلاقات بسبب رفض المشاركة في غزو العراق، سيثير هذه القضية على أعلى مستوى دبلوماسي، والأرجح أنه خرج عن صمته لأن شرودر عازم على الاستعانة بورقة حرب العراق مرة جديدة في الحملة الانتخابية التي تسبق موعد انتخابات البرلمان الأوروبي.
لكن هذا لا يمنع من القول: إن وسائل الإعلام الألمانية تبنت موقفا مغايرا تماما للموقف الرسمي، إذ نشرت صحيفة «دي تسايت» الأسبوعية الصادرة بمدينة هامبورغ نص الفقرة الواردة في اتفاق جنيف الذي يدعو إلى معاملة أسرى الحرب بإنسانية والحفاظ على كرامتهم. هذا تحديدا ما تجاهله الذين قاموا بتعذيب العراقيين وتسببوا بحرج أخلاقي كبير للولايات المتحدة، بطلة العالم في تصدير الديمقراطية وحقوق الإنسان.
لعنة الصور العارية
الصور وحدها تفضح وتدين، غير الصور التي كشف وزير الدفاع دونالد رامسفيلد أن هناك المزيد منها لم يظهر للرأي العام بعد وكذلك شرائط فيديو. ولن يمضي وقت طويل حتى تظهر بقية الصور التي ستسهم في تصويب أصابع الاتهام إلى المسئولين بالإدارة الأميركية والمؤسسة العسكرية وقد تؤثر على سير المنافسة على الرئاسة الأميركية. ليس هناك قوة تؤثر على الرأي العام أكثر من قوة الصور، وكل رئيس أميركي يعرف هذا جيدا، إذ كانت صور تحطيم تماثيل صدام حسين رمزا لهزيمة نظام حزب البعث، وصور دخول الدبابات الأميركية شوارع بغداد رمزا للنصر العسكري السريع الذي حققته القوة العظمى ضد نمر من ورق. أما اليوم فإن صور المعتقلين العراقيين وقريبا صور معتقلات عراقيات عاريات ستحل مكان رموز الحرب المذكورة وتتحول حرب العراق إلى لعنة.
وعبرت صحيفة «زود دويتشة» الصادرة بمدينة ميونيخ بصورة صادقة عن القلق الذي يعتري الرئيس الأميركي حين نشرت رسما كاريكاتيريا يظهر فيه بوش وقد صحا في عتمة الليل وهو يتصبب عرقا محاولا إخفاء وجهه في فراشه بينما ظهر أمامه شبح المعتقل العراقي الذي ربطه معذبوه بأسلاك كهربائية وجعلوه يقف مثل المسيح المصلوب، وهي الصورة التي لفت العالم وأصبحت رمزا للممارسات السادية التي ارتكبها الأميركيون في سجن أبوغريب.
مغامرة الحرب ضد الإسلام
وقالت مجلة «دير شبيغل»: إن خطر الكشف عن هذه الممارسات هو أن المرء في العالم العربي الإسلامي سيعتبرها دليلا قاطعا على أن الولايات المتحدة تخوض حربا ضد الإسلام منذ إعلانها الحرب المناهضة للإرهاب. أما معارضو سياسة بوش تجاه العراق في الولايات المتحدة وأوروبا فإنهم يعتبرونها دليلا واضحا على فشل مغامرة العراق. كما أن مساعي تخفيف مشاعر الغضب التي عمت الشارع العربي وأرجاء كثيرة من العالم عبر ظهور الرئيس الأميركي على شاشة محطتي تلفزة تبثان بالعربية لم تحقق ما توقعه بوش ومستشاروه على رغم أن بوش ليس من صنف الرجال الذين يعترفون بأخطائهم. ولا يختلف وزير الدفاع في إدارته (رامسفيلد) عنه في ذلك أبدا. لكن بوش اضطر إلى الاعتذار نتيجة الضغط الذي نشأ بسبب الكشف عن الصور المهولة.
وحدها الصحف الألمانية تجنبت استخدام تعبير أساليب التعذيب النازية، خشية إثارة غضب اللوبي اليهودي، لكن كثيرين وضعوا هذه الممارسات في مستوى واحد مع جرائم حرب وقعت في فيتنام وألمانيا والبوسنة. وحاولت صحيفة «نيويورك تايمز» أن تقول ما كان ينبغي على بوش قوله حين تحدث إلى العرب وكتبت تقول: «ليس هناك ما ينكر أن الجنود الذين قاموا بهذه الممارسات هم جنود أميركيون. ولا شك أن معارضي صدام حسين الذين وضعوا بوش في مرتبة القديسين لأنه ساعدهم على التخلص من الرئيس السابق، وجدوا أنفسهم في وضع محرج جدا، فقد أصبحت هناك شعرة بين اضطهاد النظام السابق للمواطنين العراقيين وإدارة بوش التي تريد نشر الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية في العراق».
تمهيد الطريق لدخول «القاعدة»
مضى أكثر من عام على إعلان بوش نهاية المعارك، وحتى اليوم لم يوفق بوش في مهمته التبشيرية في العراق، بل على العكس تماما، فإن علامات الفشل موجودة على الأرض وأهمها أن الولايات المتحدة لم تتوصل حتى اليوم إلى تقديم دليل على صحة اتهام واحد ضمن الاتهامات التي وجهتها إلى صدام. فأسلحة الدمار الشامل التي قال بوش إنها تهدد السلام العالمي انشقت الأرض وابتلعتها. كذلك لم تظهر علامة واحدة تشير إلى مسئولية العراق عن هجوم الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول العام 2001. بل المضحك المبكي أن الولايات المتحدة نفسها هي التي مهّدت الطريق لتنظيم «القاعدة» لدخول العراق ولم يكن تنظيم أسامة بن لادن ليجرؤ على ذلك خلال عهد النظام السابق.
ونتيجة لخسارة إدارة بوش صدقيتها من خلال التعامل مع قضية التعذيب وعدم تحمل أي من المسئولين السياسيين عواقب جرائم الحرب التي وقعت وحصلت على إدانة عالمية، وكذلك سياسة المعيار المزدوج من ناحية والتحيز لرئيس الوزراء الإسرائيلي شارون، سفاح صبرا وشاتيلا، زاد شكوك العرب على الصعيدين الحكومي والشعبي، بوجود نوايا حقيقية للولايات المتحدة بنشر الديمقراطية في «الشرق الأوسط».
في العراق اكتشفت الولايات المتحدة مدى صعوبة المغامرة التي بدأتها وقامت على أساس تكهنات ومشروعات مبالغ فيها حصل عليها الأميركيون من المعارض العراقي أحمد جلبي المطلوب للأردن لارتكابه جريمة اختلاس أموال بالملايين وهو اليوم عضو في مجلس الحكم. ويبقى في علم الغيب ما إذا كان سيتم تسليم السلطة لحكومة عراقية مؤقتة بتاريخ الثلاثين من يونيو/ حزيران المقبل، لكن المؤكد أن الولايات المتحدة باقية في المستقبل المنظور كقوة احتلال وليست قوة تحرير، فيما يستمر مسلسل الأخطاء في العراق. وقد بدأ منافس بوش على الرئاسة، مرشح الحزب الديمقراطي، جون كيري، يتقدم على بوش في النقاط. كما أن رامسفيلد يزيد مشكلات بوش نتيجة رفضه التنحي عن منصبه كخطوة طبيعية بعد كل ما تم الكشف عنه والضرر البالغ لسمعة الولايات المتحدة في العالم وخصوصا في العالم العربي الإسلامي بما في ذلك العراق. لكن بوش أعلن تمسكه برامسفيلد وقال: إنه عضو مهم جدا في حكومته. المؤكد أن رامسفيلد لم يطلع بوش على تقارير حصلت عليها وزارة الدفاع قبل أشهر جاءت فيها شهادات عن ممارسات تعذيب في سجن أبوغريب كما لم يجرِ إطلاع الرئيس على تقرير أعدته منظمة الصليب الأحمر الدولية التي ليست من عادتها الكشف للرأي العام عن نتائج التحقيقات التي تقوم بها وتكتفي بتقديمها بصورة تحذير إلى الحكومات. وأمام أعضاء لجنة التحقيق التابعة للكونغرس لم يكشف رامسفيلد عن دور المرتزقة الذين تستعين بهم الولايات المتحدة في العراق والبالغ عددهم نحو 25 ألف مرتزق يعملون لحساب شركات أمنية أميركية، وبريطانية وجنوب إفريقية، في تعذيب المعتقلين في سجن أبوغريب. والمعروف أن المرتزقة لا ينطبق عليهم القانون العسكري الأميركي لكن المؤكد أن المرتزقة يعملون بتكليف من المؤسسة العسكرية الأميركية. وفيما تتهم واشنطن إسلاميين متطرفين بالتسلل إلى العراق فإنها تغض النظر عن آلاف المرتزقة الذين من بينهم مقاتلون سابقون في جيش جنوب إفريقيا ونيبال و«إسرائيل» يعملون من أجل الحصول على المال الوفير... كما أن من بينهم موظفين سابقين في الـ «سي آي إيه» يعملون في استجواب المعتقلين العراقيين.
الصور تذكّر بفيتنام
وقال منسق السياسة المناهضة للإرهاب كوفر بلاك: «لقد ارتدينا القفازات نفسها التي استخدمها منفذو هجوم الحادي عشر من سبتمبر. كما أن غالبية الأميركيين بدأوا يتذكرون فيتنام. والإدارة الأميركية أيقنت أهمية مناهضتها لمحكمة العقاب الدولية التي أنشأتها الأمم المتحدة في لاهاي/ هولندا ولولا رفضها الاعتراف بها وتوقيع اتفاقات ثنائية مع دول العالم تنص على عدم تسليم أميركيين قاموا بجرائم حرب لمحاكمتهم أمام هذه المحكمة الدولية، لكانت صدرت دعوات لمحاكمة مرتكبي ممارسات التعذيب في سجن أبوغريب في لاهاي وليس أمام محكمة عسكرية أميركية».
في الاثناء، أصبح في حكم المؤكد أن سجن أبوغريب ليس حالا استثنائية، ففي يونيو الماضي مَثُل اثنان من المارينز أمام محكمة عسكرية لتسببهما في قتل معتقل عراقي في سجن بالناصرية. وفي نهاية العام الماضي أعفي ضابط أميركي من الخدمة العسكرية لأنه أطلق رصاصة من مسدسه خلال استجواب أحد المعتقلين. ولا يعتقد بعض المراقبين أن وضع الرئيس العراقي السابق أفضل وكذلك نائب رئيس الوزراء العراقي السابق طارق عزيز المحتجز في زنزانة منعزلة ليست بعيدة عن زنزانة صدام حسين في السجن الذي أنشأه الأميركيون داخل قبو في مطار بغداد. وأبلغ زياد طارق عزيز مجلة «دير شبيغل» أن صحة والده سيئة للغاية بعد تعرضه لأزمة قلبية وعدم حصوله على غذاء صحي عوضا عن عدم السماح لأفراد أسرته بزيارته، وقال زياد: إن الأسرة تتوقع أسوأ الأمور.
فرصة للانتقام لضحايا سبتمبر!
اتهام العسكريين الأميركيين بتعذيب المعتقلين ليس جديدا، لكن الجديد أن ما يجري الكشف عنه أن العسكريين الأميركيين ينظرون إلى العراقيين على أنهم أعداء، وأنهم ربما تلقوا دروسا تحرض على العرب والمسلمين، وأن المهمة التي أتوا بها إلى العراق تقع ضمن الحرب المناهضة للإرهاب، التي هي نتيجة هجوم الحادي عشر من سبتمبر. والكثير من العسكريين الأميركيين يجدون الفرصة مواتية لهم في حرب صغيرة لا رقابة دولية على حوادثها، للانتقام لضحايا الهجوم على مركز التجارة العالمي. في الوقت المناسب ومع فورة مشاعر الغضب صدرت رسالة جديدة عن أسامة بن لادن الذي يرغب في أن يزج اسمه في المناقشات الدولية وراح يذر الملح على الجرح الأميركي الجديد وعرض مكافأة قدرها عشرة كيلوغرامات من الذهب لمن يغتال الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان أو رجل واشنطن في العراق بول بريمر
العدد 613 - الإثنين 10 مايو 2004م الموافق 20 ربيع الاول 1425هـ