قبل أقل من ثلاثة أشهر كان لي فرصة الحضور ولمدة ثلاثة أيام في ورشة عمل حيوية نظمها أحد مراكز الدراسات الاستراتيجية العالمية عن بعض القضايا المتعلقة بالشأن السياسي. كان الحضور هناك أشبه ما يكون بالفسيفساء السياسية المتنوعة الأذواق والمشارب والاتجاهات والميول، كانت ترى ملامح عدة من الأصقاع والدول ونُظُمِها السياسية ومجتمعاتها المدنية، إلاّ أن من بين اهم الحضور شخصين فُهِمَ فيما بعد أنهما من المحسوبين على التيار المحافظ في إيران وعلى رغم أنني لم أكن مندهشا مما أسمعه أو أراه منهما بحكم متابعتي للحدث الإيراني بأجوائه وشخوصه، إلاّ أن ما لفتني أكثر هو ما يتمتعان به من عُمق في الرؤية والتحليل والقدرة على الحديث وبلغات عدة عن قضايا إيران والمنطقة وفق المناهج الفكرية والسياسية التي ينهلون منها على رغم انتمائهما إلى الموسوم في الإعلام الداخلي والخارجي بأنه «فكر طالباني» أو «متحجر»، أو في أفضل الحالات «كلاسيكي وتقليدي».
على كل حال بالنسبة إلى توجهات النخب السياسية المحافظة الصاعدة في الجمهورية الإسلامية وخصوصا تلك التي وصلت إلى البرلمان السابع الذي سيتسلم مهمات التشريع بعد السابع والعشرين من الشهر الجاري، هؤلاء النفر الذين مازالوا يؤمنون بالرمزية في العمل والانحناء أمام إسقاطات الكاريزما السياسية والدينية قادرون ووفق مناهج العقل السياسي الشيعي على أن يأخذوا حاجتهم منك وأنت لها حافظ، ثم التكيّف ببراجماتية محسوبة مع الأوضاع الناشئة من دون إرادتهم، وتلوين الخطاب ومواءمته من دون الحاجة إلى الخضوع لعتاب الضمير أو الثوابت، لأنها بنظرهم محفوظة ضمن أصل الآلية التي يتبعونها. وقد وُظفت تلك النظرة في فترة تماسّهم لمواقع صنع القرار سواء في السلطة التنفيذية أو التشريعية. فلو رجعنا قليلا إلى الوراء سنرى أن مجاميع المحافظين (اليمين التجاري التقليدي والصناعي الحديث) هي التي بدأت تُؤسس لسياسة خارجية منفرجة واقتصادية نَشِطَة إبّان المرحلة «الرفسنجانية»، باعتبارها مرحلة زاوجت بين الذوقين المحافظ والمعتدل. ففي الوقت الذي كان فيه الرئيس هاشمي رفسنجاني عضوا مؤسِسَا ورئيسيا في رابطة علماء الدين المناضلين «روحانيت» وهي العصب الرئيسي في التيار المحافظ، كان هو أيضا المرجع السياسي والديني والفكري لحزب كوادر البناء، الشقيق الأكبر لحزب المشاركة المتطرف (مع الفارق) بتيار الثاني من خرداد، لذلك فإن المحافظين لعبوا دور المايسترو في مرحلة البناء طيلة ثماني سنوات (1989 - 1997). وبما أن حركة البازار هي الدعامة الاقتصادية والمالية الرئيسية للتيار المحافظ فقد باتت السمة الغالبة على برامج ذلك التيار هي التنمية الاقتصادية، وهو ما أوجد حِلفا غير مُعلن بين اليمينيين التجاريين والصناعيين. لذلك فإن المتابع لما يقال في إيران من قِبَل الفائزين في انتخابات المجلس السابع سيرى أن معظمها تصريحات تتعلق بجوانب اقتصادية، فقد حملوا بقوة أخيرا على قرار السلطة التنفيذية والتشريعية استخدام أكثر من سبعة مليارات دولار من احتياطي العملة الصعبة واعتبروه قرارا سيلحق متاعب جديدة بالاقتصاد الإيراني، ويُبيّن فشل المجلس السادس ذي الغالبية الإصلاحية.
كما أن أحمد توكلي، وهو حائز على المركز الثاني من مجموع الأصوات في الانتخابات التشريعية الأخيرة، قد صرّح بأن المجلس السابع سيكون مضطرا لإعادة النظر في الخطة التنموية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية العامة. هذا التركيز على الاقتصاد من قِبل التيار المحافظ يُثبت ما دعت إليه شعاراته في فترة الترويج الانتخابي، فالاقتصاد الإيراني الذي لايزال يُعاني من مركزية تفوق الـ 85 في المئة (الأمر الذي أفرز نوعا من المتاريس الحائلة دون عملية الخصخصة المُنشّطة، على رغم أن ذلك التوجه كان نافعا في العقد الأول للثورة حين كانت البلاد في حرب طاحنة وعلاقات خارجية مأزومة) بات في مرحلة جديدة بعد تعديل قوانين الاستثمار الداخلي والخارجي، وبعد اتساع أوجه التعاون التجاري مع الصين وماليزيا وكذا مع ألمانيا (أكبر شريك أوروبي مع إيران). كما أن مؤشرات النفط بدأت في الارتفاع لصالح الدول المنتجة، فقد تجاوز سعر برميل برنت المرجعي عتبة 35 دولارا قبل أسبوع، وهي المرة الأولى منذ أكتوبر/تشرين الأول 2000، كما أقفل سعر برميل النفط الخام في جلسة التداول في نيويورك يوم الاثنين الماضي عند أعلى مستوياته منذ أكتوبر 1990 وبلغ 38,21، وذلك بسبب مخاوف من هجمات إرهابية على منشآت نفطية في منطقة الشرق الأوسط؛ كل هذه العوامل جاءت مؤاتية لعمل الفريق الاقتصادي المحافظ القادم بقوة إلى السلطة التشريعية، والطامح لنيل منصب الرئاسة أيضا في مايو/ ايار 2005
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 612 - الأحد 09 مايو 2004م الموافق 19 ربيع الاول 1425هـ