سؤال طالما تردد كثيرا في مجتمعاتنا العربية وخصوصا بعدما عاش سنين طويلة من الاغتراب السياسي والغبن الاجتماعي، وبعد توغل السلطة المطلقة وشيوع الأنظمة الشمولية، وتكرس نظام الحزب الواحد، سؤال تردد كثيرا: أية ديمقراطية وتنمية في ظل مشروعات الإصلاح العربية؟ والسؤال الذي مازال عالقا: هل هنالك ثمة إصلاح؟ وكيف يكون الإصلاح؟ ومتى نستطيع أن نقول: إن هناك إصلاحا حقيقيا؟ وهل يجب أن ينبع من الداخل؟ - كما جاء في مقال الملك عبدالله الثاني والذي نُشر في صحيفة «وول ستريت جورنال» - أم يفرض من الخارج؟ وهل صحيح أن هناك ثمة دمقرطة أميركية في المنطقة تريد فرضها على العالم العربي كما جاءت تقارير الولايات المتحدة الأميركية، تبدأ في العراق وتنتهي حتى آخر قُطر عربي؟ أسئلة معرفية تحتاج إلى إجابات حقيقية بعيدا عن المجاملات التي وقع فيها الكثير من النخب والمثقفين.
بعد سنين طويلة من القهر السياسي بات العالم العربي مقتنعا - ولو نظريا - بأنه لا يمكن أن تكون هناك تنمية اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية بلا تنمية سياسية، وهذا ما دفع الكثير من دولنا العربية إلى إعادة النظر في أدائها السياسي. فالعنف السياسي يُولّد عنفا سياسيا وراحت، الدراسات العربية تعقد ندواتها وبحوثها لمعرفة أين يكمن الخطأ في عالمنا العربي وخصوصا بعد شيوع التخلف والجهل والمرض والأميّة في هذه المجتمعات، والتي كانت نتيجة حتمية لسياسة خاطئة جاءت نتيجة معضلتين أساسيتين:
1- احتكار القرار السياسي من قبل السلطة.
2- تكدس الثروة في يد قلة من أصحاب القرار.
وقديما قال الفلاسفة: النتيجة تتبع أخس المقدمتين. وجاءت الدراسات ترصد الظاهرة من قبيل:
1- ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية لحسنين توفيق.
2- النظم السياسية العربية... قضايا الاستمرار والتغيير لعلي هلال ونيفين مسعد.
3- الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي لمجموعة من الباحثين.
وغيرها من الدراسات والبحوث، وكلها تبحث عن مكامن الخلل للواقع العربي. وجميع هذه الدراسات وصلت إلى نتيجة واحدة أن العالم العربي لا يمكن أن يكتب له النجاح فيشهد استقرارا سياسيا واقتصادا منتجا ومجتمعا فاعلا ومبدعا حتى يتم ترسيخ النظام الديمقراطي بعيدا عن فزعة وهوامة الرهابيين - ومن كل الأطراف - من أن الديمقراطية «نظام مستورد» وأن للعالم العربي المسلم «خصوصيته».
فالإصلاح يبدأ عندما تكون هناك قناعة حقيقية لدى النظام العربي بالديمقراطية وذلك يكون ببرلمان شعبي وبحكومة منتخبة وبقضاء عادل وبصحافة حرة وبجامعة مزدهرة على حد تقسيم هيكل. ومشكلتنا في العالم العربي أننا نعاني - ما سُمِّيت في شمال إفريقيا «بديمقراطية الاستثناءات» وهو ما عُبِّر عنه لغويّا بالاستثناء القبيح.
عندما لا تكون هناك قناعة بالديمقراطية تصبح - مع مرور الأيام - بلا مضمون وتفرغ من محتواها، تصبح بذلك فلكلورية ذات طابع تجميلي وتتحول مؤسسات المجتمع المدني إلى اكسسوارات تجميلية. وأكثر ما عانيناه طيلة القرن المنصرم هي الديمقراطية الشكلية وهي أخطر حتى من السلطة التوتاليتارية.
إنني مؤمن بما جاء في مؤتمر الإسكندرية حينما ذهب ليعالج قضية الإصلاح بمقاربة جريئة، إذ قال: «الإصلاح يجب أن ينبع من داخل المجتمع»، ولكني أختلف معه في ما ذيّل به هذه العبارة بقوله: «... ويؤخذ في الاعتبار أحوال كل قُطر». هذه «القُطرية» وهذا الاستثناء عمل كثيرا في إخلال العمل السياسي في عالمنا العربي. هذا الاستثناء أضرّ بالديمقراطية العربية، صادر حق المرأة، ورسّخ قوانين الطوارئ، وهو يعد تبريرا - وإن سَلِمتْ النيّة - للاستثناءات السياسية التي كنت قد ذكرتها. دعونا نناقش الإصلاح السياسي بكل جرأة لأن مسافة ألف ميل تبدأ بخطوة واحدة في الاتجاه الصحيح. فما لم ننقد واقعنا السياسي بنقد ذاتي بناء بعيدا عن جلد الذات (المازوخية) لا شك أننا سنسقط ضحايا عقدة الشوزيفرينيا السياسية.
أولا: الإصلاح السياسي
إن الإصلاح السياسي يكون عبر اعتماد آليات مُفَعّلة منها:
- إشراك المجتمعات العربية في صوغ القرار السياسي مع الاحتكام إلى المجتمع المدني مع ترسيخ نظام المؤسسات وسلطة القانون.
إن بعض ما يعانيه مجتمعنا العربي من إشكالية هو ظاهرة التفرد بالسلطة «النرجسية السياسية». وأصبحت السلطة العربية تحتكر الدولة والحقيقة بنظام أبوي بطركي - على حدِّ تعبير هشام شرابي - فغيّبت المؤسسات وخُطف المجتمع. وهو عيب عربي منتشر في أوساط السلطة العربية والمعارضة العربية.
إن المشروعات القومية التي حكمت عالمنا العربي وخصوصا من جاءت وليدة أيديولوجيات ثورية تحررية كانت أول من انقلب على الشعار، ولنا أمثلة كثيرة لا داعي لذكرها.
هذه النرجسية المختزلة سببت لنا كوارث كبرى أصبحت على حساب الجماهير وعلى حساب الأنظمة. التفرد بالقرار أدخلنا في حروب بين الأصدقاء وكانت النهاية خسران قُطر عربي يحمل تاريخا عريقا وكان مهبط حضارات. الدكتاتورية فيه خلقت لنا واقعا ازداد قتامة.
وكي نصل إلى إصلاح عربي حقيقي يخرج من إطار التوصيات يجب أن نعمد إلى مقدمات لذلك، منها:
- رفع حالات الطوارئ والاحتكام للبرلمانات.
- الفصل بين السلطات.
- إلغاء القوانين الاستثنائية والمحاكم العسكرية ورفض أية سياسة تعمد إلى عسكرة المجتمع المدني.
- إطلاق حريات تشكيل الأحزاب والنقابات والاتحادات.
- تحرير الصحافة ووسائل الإعلام من التأثيرات والهيمنة الحكومية والسماح بترسيخ صحافة حرة خارجة عن وصاية السلطة التنفيذية.
- إشراك المرأة في حق الترشيح والانتخاب.
الديمقراطية - كما قال تشرشل - ليست نظاما جيدا للحكم، ولكن الأنظمة الأخرى أسوأ بكثير. إننا لن نحلم بمجتمع فاعل ما لم نعمل جميعا على ترسيخ مجتمع طيفي متنوع يؤمن بالرأي والرأي الآخر، متخذا أسلوب الحوار طريقا للحياة، وذلك لا يكون إلا بترسيخ الديمقراطية.
الإصلاح السياسي بات أمرا ضروريّا لعالمنا العربي وخصوصا في ظل هذه التحولات الدرماتيكية. لقد سقطت إمبراطوريات كبرى على امتداد التاريخ بسبب الفساد والتسلط والاستبداد. والاستبداد يؤذن بسقوط الدول، كما ذهب إلى ذلك فيلسوفنا العربي ابن رشد. سقطت الدولتان الأموية والعباسية، والإمبراطورية العُثمانية، والدولة الصفوية بسبب ذلك، كما شهدنا سقوط الاتحاد السوفياتي، إلى سقوط بغداد، وهكذا هو التاريخ.
فلاسفة اليونان كانوا يرددون: «السلطة المطلقة مفسدة مطلقة». عندما نعمل على إصلاح الواقع السياسي ونعمد إلى إشراك الجماهير في صوغ القرار ونشركها في «الكعكة» الاقتصادية سنقلل من الاحتقانات السياسية ونصبح أقل احتياجا في الأجهزة الأمنية. ديغول الذي بنى فرنسا كان يقول: «بابي مفتوح في وجه شعبي». والفيلسوف الكبير أرسطو له قول يختصر كل ما أردتُ قوله: «إذا عدل السلطان لم يحتج إلى الشجاعة».
مشكلة السلطة في عالمنا العربي أنها تعاملت مع الشارع العربي من منطلق أمني بوليسي، لهذا احتاجت إلى القوانين الاستثنائية وإلى عملقة أجهزة الأمن. إن العالم العربي بحاجة إلى إصلاح حقيقي مبتنٍ على قناعة راسخة بالمفهوم حتى يتحول إلى ممارسة على الأرض.
لقد ابتدأت بعض أنظمتنا تقتنع بذلك، وما نشهده في البحرين من خطوات فاعلة نحو ترسيخ الديمقراطية خير مثال. لقد بدأنا الإصلاح عبر قناعة ذاتية من دون أية إملاءات خارجية، بنضال شعبٍ عريق كافح من أجل الديمقراطية، وبقناعة ملكٍ آمن بالإصلاح طريقا. فقد تم إلغاء قانون أمن الدولة ومحكمة أمن الدولة، وبدأت الصحافة تتحدث وتسلك طريقا آخر كسلطة رابعة، تراقب، تنتقد، وتتحدث عن الفساد المالي والإداري. الديمقراطية البحرينية ابتدأت وها نحن نشهد بعض ثمارها. تجارب الشعوب تبدأ متلكئة، تتعرض لنكبات ومطبات - وهو من طبيعة التدافع الاجتماعي - ولكن ذلك يجب ألا يمنعنا من دعم التجربة حتى تصل إلى المواقع المتقدمة، وما نتطلع إليه هو التركيز على القواسم المشتركة التي من خلالها نستطيع أن نطوّر التجربة لكي تكون لصالح الجميع.
ثانيا: الإصلاح الاقتصادي
الاقتصاد العربي مازال اقتصادا ذيليا ويفتقر في معظمه إلى مقومات الاقتصاد القوي. فهو اقتصاد ريعي، ومن أجل إصلاح الاقتصاد العربي يجب أن تقوم الأنظمة العربية ببعض الإصلاحات للحد من بعض الظواهر التي أصبحت تضعف من اقتصادنا، ما انعكس على البنى التحتية لهذه البلدان وساعد على تكريس التخلف بشتى أشكاله. ومن أجل الوصول إلى الاقتصاد القوي يجب الحد من بعض الأمور منها:
- الفساد المالي والإداري. (راجع كتاب «غسيل الأموال» لمحسن الحضيري، و«الفساد والحكم» لسوزان).
لقد أصبحت المشروعات العامة في خدمة المشروعات الخاصة، وانتشر الفساد المالي والإداري حتى أصبحا يهددان وينزفان الموازنة العامة، وقد عُرِّف الفساد علميّا بأنه: «إساءة استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص». (راجع «موسوعة الإمعان في حقوق الإنسان» لهيثم مناع).
ولقد شهد عالمنا العربي كثيرا من حالات الفساد واستغلال المنصب للثراء السريع على حساب الاقتصاد القومي. انظر كتاب «الهاربون بمليارات مصر» لعادل حمودة، وأيضا كتاب «مصر تريد حلا» لفهمي هويدي. تراثنا يحثّ على الإصلاح الاقتصادي تمهيدا للوصول إلى العدالة الاجتماعية والاستقرار السياسي.
يقول الإمام علي (ع): «من المروءة استصلاح المال»، وفي وصيته للأشتر عند ولايته لمصر: «وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ منك في استجلاب الخراج». يجب على الأنظمة العربية أن تسعى جاهدة إلى الإصلاح الاقتصادي لكي تضمن الاستقرار السياسي، وكي توفق لتفعيل مشروعات الإصلاح.
فيجب الحدّ من تلك السياسات الخاطئة التي تعاطت مع الأموال العامة والتي منها:
1- الإنفاق الهائل لتطوير الأجهزة الأمنية. وقد بُولغ في ذلك فأصبح على حساب المؤسسات الخدمية والبنى التحتية لهذه الدول.
2- الغرق في الديون الخارجية، إذ أصبحت ديون بعض دولنا العربية تصل إلى 7 مليارات دولار، والبعض إلى 27 مليار دولار.
كما أن الثروة القومية بُدِّدت على شراء أسلحة ميِّتة. فيجب إصلاح هذه السياسات، فقد أصبحت تؤكِّل الجماهير حديدا بدلا من أن تطعمهم خبزا، في وقت بدأت طوابير البطالة تزداد، وازدادت معها أعداد الفقراء. فقد صرح إسماعيل سراج الدين نائب مدير البنك الدولي في حديث نشرته مجلة الـ «نيوزويك» في أغسطس/ آب 1998 بقوله: «يوجد في العالم 840 مليون نسمة يعانون من الجوع و2 بليون آخرون يعانون من سوء التغذية».
لقد أصبح العالم العربي سوقا رائجة ومكانا مُغريا لشراء الأسلحة، ما كان له المردود السلبي على المجتمعات العربية. فقد ذكر مصدر آخر «ان ثمن غواصة ذرية واحدة يكفي لإنقاذ 160 مليون طفل في 23 دولة متخلفة من الأمية، وأن قيمة طائرة حربية واحدة كافية لاستحداث 40,000 صيدلية في القرى النائية». (راجع كتب «نذر العولمة» لعبدالحي زلوم، «فخ العولمة»، «عولمة الفقر» لتشوسودفسكي».
لقد ابتدأ مشروع النهضة لبعض دولنا العربية مع اليابان في زمن واحد. ولكن إلى أين وصلت اليابان، وإلى أين وصلت هذه الدول العربية؟ بالتحديث الاقتصادي وإذا نظرنا إلى سنغافورا وماليزيا فهما دولتان قريبتا عهد وبدأت حركة التحديث والعمران والانفتاح الاقتصادي عندهما في مطلع الثمانينات، ويبقى السؤال: إلى أين وصلت هاتان الدولتان، وإلى أين وصلنا؟ إننا بحاجة إلى إصلاح حقيقي لاقتصادنا العربي، وذلك لا يكون إلا بالإصلاح السياسي الذي بدوره يقود إلى إصلاح اقتصادي قائم على الشفافية والانفتاح المنضبط. إننا نؤمن بأن الإصلاح الاقتصادي لا يكون إلا بالتوزيع العادل للثروة وبضخ مزيد من الأموال من أجل صالح هذه المجتمعات الفقيرة، فالمواطن العربي مازال مثقلا بأعباء المعيشة اليومية، ومازال يحلم بسكن ملائم وبراتب يرفع الحظ، وبوظيفة تحفظ ماء الوجه. كما أن الغرق في الديون الخارجية ساعد أيضا - بسبب حجم الفوائد المأخوذة من جراء إعطاء القروض - على إضعاف الموازنات العامة، ما انعكس على حياة المجتمع العربي، وكلنا يعلم ما يأخذه صندوق النقد الدولي من أرباح خيالية على هذه الدول.
ثالثا: الإصلاح الثقافي
لا شك في أننا بحاجة أيضا إلى إصلاح ثقافي، فمازالت الثقافة السائدة في عالمنا العربي هي ثقافة أحادية الجانب تحتكر الحقيقة، وتتفرد في اختزال المعارف سواء من السلطة أو القوى السياسية اللاعبة في حقول السياسة. كما أن هناك زهدا رسميّا واضحا تجاه كل ما يتعلق بالثقافة من فنون. فالعالم العربي يترجم 330 كتابا سنويا، ما يشكل خُمس عدد الكتب التي تترجمها اليونان. (راجع كتاب «السلطان» لشاكر النابلسي». كما أن هناك معلومة مرعبة تعطي مؤشرا لهذا الواقع، فمنذ عهد الخليفة العباسي المأمون حتى الآن ترجم العالم العربي عدد الكتب الذي تترجمها إسبانيا حاليّا في عام واحد.
الثقافة التي تقدم إلى المواطن العربي مازالت ثقافة يغلب عليها الجانب الرسمي. فهي ثقافة مُسَيَّسة يغلب عليها الطابع التسطيحي. لقد شهدنا بسبب القهر السياسي كيف نزح الكثير من المثقفين والمفكرين العرب إلى الخارج، إذ بتنا نعاني ونشكو من ظاهرة نزيف الأدمغة وهجر العقول العربية إلى الخارج، في الوقت الذي بقت فيه مناهجنا العلمية وجامعاتنا تعاني من ضعف المناهج وافتقارها إلى الابتكار أو الإبداع. ولشيوع الثقافة التسطيحية بدأت تظهر علينا صور مرعبة قائمة على إلغاء الآخر. عندما نقوم بإصلاح الوضع الثقافي نحن بذلك نؤسس أرضية معرفية تستطيع أن تخلق واقعا سياسيا وجوّا اجتماعيّا صحيّا، لهذا ينبغي أن نعمل على تشجيع واحتضان كل المشروعات الثقافية التي تصبُّ في خدمة قيم ومبادئ الإسلام. إن تلاقح الحضارات وتلاقي الثقافات يصُبَّان في خدمة المجتمع الإنساني ويعملان على إثراء الواقع العلمي لهذه الشعوب، وإن ما نقوم به اليوم عبر «منتدى أصيلة» هذا المهرجان الكبير والذي يُقام تحت رعاية جلالة الملك حفظه الله هو طريق نحو ترسيخ الثقافة العربية والتي من خلالها نستطيع أن نخلق مناخا ثقافيّا منتجا يكون للريشة فيه دور، وللشعر أدوار، وللفكر مساحات ومواقع تصبُّ في خدمة المجتمع والدول
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 611 - السبت 08 مايو 2004م الموافق 18 ربيع الاول 1425هـ