هناك قاعدة نأمل أن تصبح من المسلمات التي تحكم حياتنا في هذا البلد حتى نطمئن على المستقبل، وعلى الجميع إقرارها ليستتب الأمن الاجتماعي ويترسخ: ابتداء من الحكم وانتهاء بأصغر عضو منتمٍ إلى جمعية سياسية، لكي يخرج الوطن من متاهته المدمرة: «السجن لم يخلق للمواطن البريء»، ولكنها على بساطتها القاتلة ظلّت مغطاة بالغبار طوال الفترة السابقة حتى كشفتها حادثة الاعتقالات الأخيرة.
ومن المفارقات أن تلتقي تصريحات النائب العام مع تصريحات أحد المسئولين في جمعية سياسية، مع تصريح نائب في البرلمان. الطرف الأول تشمّ من تصريحاته رائحة الاستهانة بقيمة المواطن الذي تكال له كل هذه التهم التي لا تتحملها الجبال الراسيات، من قلب نظام الحكم... إلخ. الطرف الثاني يرحب بدخول السجن طوعا، وكأنّ على المواطن - الذي يفترض أنه يطالب بحقٍ من حقوقه - أن يدخل السجن على الدوام، كرها كما كان في عهد قانون «أمن الدولة»، وطوعا في عهد الإصلاح والانفتاح. ورغم تفهمنا للدوافع النبيلة وراء مثل هذا التصريح، إلاّ أن السجن لم يخلق للنبلاء والأبرياء والشرفاء. الطرف الثالث يمثله ذلك النائب الذي طالب باعتقال «الرؤوس الكبيرة» بدلا من الرؤوس الصغيرة، وكأن هناك طبقية وتمييزا بين «الكبار» و«الصغار» حتى في الاعتقال وامتهان حرية الانسان وسحق كرامته. هذا فضلا عن «أباطرة القلم» الذين ما فتئوا ينظّرون للاعتقالات وتبرير سجن المواطنين الابرياء من دون أدلةٍ واضحة، في جوٍ من التهويل والتبرير واستجلاب الاستشهادات «الفكرية» من هذا البلد التعيس أو ذاك...
هذه التصريحات من الأطراف الثلاثة أو الأربعة، تدلّ على أننا مجتمعٌ لم يخرج من تجربة الثلاثين عاما الماضية بدروسٍ تدلّه على طريق المستقبل السوي.
نحن نفهم أننا مجتمع يعيش فترة انتقالية، هناك مشكلاتٌ معلقة، لم يحدث تقدمٌ كبيرٌ وجديٌ على طريق حلحلتها، وتأجيل المشكلة أو تأخيرها لن يحلها وانما سيراكمها إلى المستقبل، ومهما تأخرت لابد أن تنفجر داخل الجسم مثل الزائدة الدودية. طبعا الكلّ يأمل في الخروج من الأزمة وبأسرع وقت، ولكن السجن لن يكون حلا لأزمة وطن ولا دواء لأمراض مجتمع، وإلا لعشنا في جنة الخلد في الأعوام الثلاثين الماضية. وعلينا أن نقولها بوضوح ان السجن مرفوضٌ من الأساس كطريقٍ لمعالجة مشكلات المجتمع العالقة.
كمجتمع، علينا أن نصل إلى قناعاتٍ تسلّم للمواطن بحق التعبير عن رأيه سلميا، وعلى الجمعيات أن تحرص على الابتعاد عما يعكر الأمن الاجتماعي، وعلى الحكم ان يسلّم للجمعيات بالعمل السياسي ويوسّع صدره لسماع صوتها، فالجمعيات السياسية ليست خمسمئة أو ألف عضو، وانما هي تيارٌ شعبيٌ له مطالب حياتية ملحة وتطلعات سياسية مشروعة، ونحن أمام خيارين: إما ان نمضي على طريق القبول بالرأي والرأي الآخر، وإما ان نرجع إلى قواعد ومسلكيات «أمن الدولة» التي لم يكن يُراعى فيها للمواطن حرمة، ولا للوطن سمعة، حتى أضحت البحرين، هذه الدولة الوادعة الصغيرة في حضن الخليج، تمتلك ذلك الملف المتضخم في المنظمات التي تهتم بحقوق الانسان، والأجانب الذين لم يعرفوا موقعها على الخارطة من قبل، عرفوها بالتجاوزات التي حدثت في سجونها.
نحن إذن أمام خيارين: أن تصبر الاطراف على بعضها وتتحمل بعضها، أو تعود إلى الماضي وتستعيد أجواءه البغيضة، إذ لا تأمن الأم على أولادها، ولا المواطن على رزقه، حتى وصلت الأضرار إلى المؤسسات الدينية والمدنية، ولاداعي إلى ذكر التفاصيل...
وإذا كان للاعتقالات الأخيرة الضارة من نفع، فربما يكون ما نتج عنها من فتح أعيننا على ضرورة إقرار صيغة نهائية للتعامل بين أطراف المجتمع تقوم على القبول بالرأي الآخر، في وضع يسوده السلم وتحكمه قواعد متسالمٌ عليها، ولا يتم اختراقها من أي طرف، لأن الاختراقات الطارئة يدفع ثمنها الجميع. وإذا كان الحكم سيدفع بعضا من سمعته، وإذا كانت الجمعيات ستدفع بعض المعتقلين ضريبة لهذا الشدّ المتبادل، إلا ان الخاسر الأكبر هو الوطن، الذي سيدفع الثمن غاليا من رصيد مستقبله ومستقبل أجياله، حين يفرض عليه بعض الناعقين البقاء أسيرا في متاهته
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 611 - السبت 08 مايو 2004م الموافق 18 ربيع الاول 1425هـ