العدد 610 - الجمعة 07 مايو 2004م الموافق 17 ربيع الاول 1425هـ

عرف مرارة السجن والمنفى وظل حاضرا عبر المراحل

حديث ذكريات عبدالله المطيويع مناضل الستينات (1 - 2)

أثناء بحثي المستمر عن شخصيات لسلسلة «حديث الذكريات»، كان اسم عبدالله مطيويع واحدا من الأسماء التي اخترتها واقترحها بعض المتابعين والمهتمين. لكنني لم أعرف الكثير عن هذا الرجل. سمعت عنه وشاهدته في مناسبات عدة مثل التظاهرات والندوات وعندما رشح نفسه في الانتخابات البلدية في مايو/ أيار العام 2002.

تناثرت القصص والروايات التي لا تشفي الغليل عن هذا الرجل وعلى رغم البحث المستمر واتصالات عدة تمت بيني وبينه، ظلت المعلومات عن عبدالله مطيويع قليلة على رغم أن الجميع يعرفه جيدا مناضلا قديما منذ الستينات عرف مرارة السجن والمنفى أيضا وظل شخصا حاضرا بقوة في جميع المراحل.

الذين يعرفونه يقولون إنه لم «يخلق إلا ليكون مناضلا» لأن مطيويع لا هم له ولا شاغل سوى هموم الوطن في كل مراحل حياته. ويقول بعض معارفه إن الرجل مازال كما هو منذ زمن طويل بعيدا عن الاضواء والمنابر والشهرة، لكن الجميع يعرفونه من المحرق إلى بني جمرة وبينهما معظم مدن وقرى البحرين.

من خلال حديثي المتكرر معه أكثر من مرة، ادركت السبب وراء المعلومات القليلة عن مطيويع، أولا لأن الرجل قليل الكلام الى حد الصمت وان تحدث فهو لا يتحدث إلا عن حوادث عاشها. وهو في كل الاحوال يفضل الصمت على الحديث الا اذا تعلق الأمر بالماضي، فهو يملك ذاكرة لا تهمل اي تفصيل مهما كان بسيطا. لهذا يراه الكثيرون أنه مازال على رغم حضوره يعيش في ظل هذه الذكريات التي تشكل بالنسبة إليه حياته، ومازال متطبعا بما عاشه في تلك العقود... الحذر والشك الدائم وهي صفات أولئك الذين عاشوا حياة العمل السري لفترة طويلة.

خبرنا عن بداياتك؟

- ولدت في المحرق، العام 1948 ودرست في مدرسة الشمالية التحضيرية ثم الهداية الخليفية. وحال اعتقالي في مارس/ آذار 1965 في المدرسة الثانوية دون إتمام دراستي الثانوية. واضطررت للعمل في وقت مبكر وانخرطت في العمل الوطني منذ بداية المرحلة الثانوية إذ كانت المحطة الاولى في المدرسة الثانوية التي شهدت اضرابات الطلاب المتضامنة مع عمال بابكو في مارس العام 1965.

كانت تلك فترة مضطربة وحافلة من تاريخ البحرين. ماذا تذكر عن تلك الفترة وخصوصا انك بدأت العمل الوطني فيها كما اشرت؟

- كان الجو العام في البحرين ناصريا وخصوصا في المحرق، معاديا للاستعمار البريطاني. وكنت صغيرا عندما برزت هيئة الاتحاد الوطني في الأعوام 1954/1956، شاهدت ما فعله المتظاهرون بالانجليز العاملين في سلاح الجو البريطاني الذين يسكنون قرب القاعدة البريطانية في المحرق.

لقد أحرقوا مقر سكنهم بعد أن هرب الطيارون البريطانين هرولة إلى ثكناتهم في «مطار المحرق الحربي» كانت هيئة الاتحاد الوطني (الباكر، الشملان، ابراهيم بن موسى، سيدعلي كمال الدين، ابراهيم فخرو، عبدعلي العليوات)، وحّدت شعب البحرين وقادته بجدارة قبل أن يجهضها الانجليز ويعتقلوا قادتها وكل من ساهم في تلك المرحلة الوطنية المجيدة.

مع بداية الستينات شهدت البحرين تصاعدا في الصراع ضد السلطة... وخصوصا بعد قرارات شركة بابكو بفصل الكثير من العمال كجزء من خططها لتقليص العمالة الوطنية، وكان العدد المرشح للفصل 400 عامل.

كان عمري 17 عاما وغادرت مقاعد الدراسة في يوم الخميس 11 مارس 1965، يوم اندلاع المظاهرات في المدرسة الثانوية التى اجتاحتها شرطة الخيالة بهراواتها، إذ وجدنــا أنفسنا في ساحة معركة غير متكافئة، طلبة ثانوي عزل يطالبون بوقف تسريح عمال شركة النفط بابكو. يقابلهم مسلحون بالرصاص والهراوات وقنابل مسيلات الدموع. وادى ذلك الى اقتياد بعضهم الى المعتقل فيما التجأ البعض الآخر للهروب من اختناقات الدخان وهراوات الشرطة الى بوابة القسم التجاري الملاصقة للمدرسة الثانوية، على إثرها تعرضت الكثير من البيوت لحملات تفتيش واعتقالات طالت الكثيرين. فيما استمرت عملية الاضراب قرابة الشهرين.

هل تتذكر الهتافات التي رددتها في انتفاضة 1965؟

- «كانت هناك الكثير من الهتافات أشهرها «يا عمال الحركة ويا طلاب الحركة والشركة مرتبكة والبحرين في معركة». وكذلك هتافات: «اللجنة إقطاعية - ما نريدها ميه في الميه - ونريد لجنة عماليه واحنه اللي نختار». وأيضا «في سترة يا ناس صارت معجزة - الضابط مشنوق والجيب اختفه» و«صاح صايح في الرفاع ياخلك اش ذا النزاع... جاوبه في الحد شايب يا خلك شفت العجايب - أهل المحرق هالحبايب يصرخون مثل السباع». والكثير من الهتافات التى كانت تبدعها القريحة الشعبية، وفي نهاية المظاهرة يجري استفتاء شعبي عفوي لكنه كان رائعا.

متى تم اعتقالك للمرة الاولى؟

- لقد شاركت في جميع المظاهرات وبالتالي اصبحت مطلوبا من قبل جهاز الامن... لذلك كان من الضروري أن اختفي عن أعين البوليس. وبعد شهر تقريبا من المظاهرات بدأوا بمداهمة البيوت ليلا واعتقال كل من شاركوا في المظاهرات. وفي يوم 9 أبريل/ نيسان 1965، أي قبل عيد الاضحي بيوم قاموا بمحاصرة منزلنا في الساعة الثالثة فجرا، كنت أعرفهم انهم سيأتون، لذلك كنت أراقبهم من فتحة من سطح منزلنا المطل على الزقاق الذي دخلوا منه. فقمت بالهرب من خلال أسطح منازل جيراننا واختبأت في منزل جارنا أحمد شمسان (الذي لم يكن يعرف انني أختبأت في منزلهم إلا بعد سنين). فقبل أن يستيقظ الجيران كنت خرجت من منزلهم وتوجهت من خلال الأزقة الى المكان الذي يختبئ فيه أحمد الشملان وشاكر عقاب وراشد القطان. وحيث لم يجدوني في المنزل قبضوا على أخوي عيسي وابراهيم رهينتين وأمروا والدي أن يبحث عني ويسلمني إليهم وإلا اعتقلوه هو الآخر إذا فشل في العثور عليّ.

وفي مشهد لاتزال تحتفظ ذاكرتي به بعفوية، أنني ذهبت متخفيا الى بيت عمي جابر لأستطلع الأمر، كان الوجوم والحزن يخيم على العائلة، وبينما أنا أحدث عيال عمي جابر في حوش المنزل وإذا بالعم جابر يقفز عليّ ويمسك بيدي بقوة ويصيح بي «حسبي الله عليك من ولد»، أهذا ما تريدونه؟ لقد قبضوا على أخويك وأبوك في حال يرثى لها ويدور عليكم، واخذني مباشرة الى بيتنا، ثم سلمني إلى والدي، وهو يرتجف من الغضب. ولا أعلم أكان الغضب عليّ أم على البوليس الذي عاث فسادا في منزلنا. كان والدي يمشي وهو صامت وقبل وصولنا الى مركز الشرطة في المحرق، قال لي «يا بوك وينكم ووينهم عندهم سلاح وعندكم حصى، وخشمك لو عوي!»، رددت عليه بعناد ابن السابعة عشرة: «انه خشمي مو عوي ولو يصير خشمي عوي آكصه»، ولم يرد علي وظل صامتا، حتى بوابة مركز شرطة المحرق فقد سمعته يتحلطم ويسب الانجليز والشرطة.

في مركز شرطة المحرق إذ كان هناك ضابط انجليزي بدت عليه الدهشة عندما قابلني لصغر سني وقام على الفور بالاتصال بجهاز المخابرات إذ نقلت إلى «القلعة».

ما إن وصلنا الى القلعة تم نقلنا الى مكتب التحقيقات الذي كان يرأسه ضابط يدعى «بوب» وهناك هجم علي رجل الأمن وبيده خيزرانة وأوسعني ضربا من دون مقدمات في جميع أنحاء جسدي، ثم جاء رجل أمن آخر وقيدني وتشاركوا في عملية الضرب. بعد ذلك بدأت عملية التحقيق وأول سؤال كان: أين الشملان وراشد القطان وشاكر عقاب؟ أين المخبأ؟ أين تجتمعون؟ وانهالت الأسئلة التي لا تنتهي إلا بجولة جديدة من التعذيب.

في ذلك اليوم تُركت لعدد من الساعات من دون استجواب وفيما أنا مستغرق في كيفية مواجهة الجولة المقبلة، جاءني ولد أنيق بربطة عنق أنيقة في العشرين من عمره، كان لطيفا وودودا جدا قال لي: نعرف أنك من أوائل الطلبة في دراستك، وانت مازلت في مقتبل العمر، سنؤمن لك دراسة في لندن، بس تتعاون معنا! أجبته: انك تسألني عن أشياء لا اعرفها، فانفجر غاضبا وقال سيجبرونك على الاعتراف، وبعد نحو خمسة أيام قبضوا على الشملان والقطان وشاكر عقاب بعد وشاية أحد المخبرين في أحد بيوت المحرق في فريج البنعلي.

بعد 6 أيام توقفوا عن التعذيب ونقلوني الى زنزانة داخل سجن القلعة هي زنزانة رقم 5 قابلت هناك للمرة الأولى مناضلا من رعيل المناضلين الأوائل، علي دويغر، وكان ملتحيا، استمعت منه الى عبارات تشد العزم وتثني على مواقف المناضلين الصامدين في السجون، كانت الزنازن في سجن القلعة القديم تضم علي ربيعة وحميد العلوي وعيسي الذوادي ومحمد عبيد اليماني ويوسف عبدالملك، محمد جبارة وجميل فالح وخليل الظاعن وعبدالله القصاب وجميل المسقطي وأحمد حارب (انفرادي) وعبدالله ابراهيم هرمس وسبت سالم سبت ومحمد (توست) وأحمد بوجيري، بقيت نحو مدة شهر في سجن القلعة ثم جاؤنا في يوم وشبكوا ايدينا بالقيود كل اثنين مع بعض ونقلونا الى جزيرة جدا.

بعد نحو ثلاثة أشهر جاء الى زنزانتي رقم 7 في بيت الدولة في جدا مندوب الصليب الأحمر الدولي برفقة ضابط السجن (كروف اُُْن) وقام بفحصي وكانت آثار الضرب لاتزال باقية في ظهري. كان المناضل المرحوم عبدالله بن علي المعاودة هو المترجم لي لمندوب الصليب الأحمر الدولي، وغادرنا مندوب الصليب الأحمر الدولي والدهشة على وجهه بما رآه وسمعه، وكتب تقريرا مفصلا، كان متضامنا معنا.

هل أثر تقرير مندوب الصليب الاحمر في وضعكم؟

- بعد سنة ونصف السنة في سجن جزيرة جدا، تغيرت بعض الوجوه في جهاز الامن، إذ جلبت الحكومة خبيرا أمنيا جديدا لاعادة ترتيب جهاز المخابرات، وكان هذا الخبير هو ايان هندرسون.

ماذا بعد اطلاق سراحك؟ هل عدت للدراسة أم دخلت الحياة العملية؟

- لم تكن العودة الى الدراسة ممكنة... انخرطت في الحياة العامة منذ العام 1967، إذ اشتغلت في شركة طيران الخليج في قسم الحسابات ثم في العمليات في مطار البحرين والحجز المركزي، وأتممت دراستي الثانوية العامة بدراسة المنازل وأيضا أخذت دروسا في اللغة الانجليزية في المعهد البريطاني وأخيرا درست مساء في المدرسة الصناعية لأحصل على شهادة لحام وفني تفصيل الحديد قبل أن أعمل في شركة ديلونك ومبي في بداية السبعينات.

لعبت دورا كبيرا في السبعينات في الميدان العمالي كقائد للعمال ونقابي نشط. هل يمكنك تسليط الضوء على تلك الفترة؟

- شهدت البحرين بعد العام 1965، سلسلة من الاضرابات العمالية منذ العام 1968، والتي بدأت في محطة الكهرباء وقسم التوزيع والميناء والصحة... ووصل الدور إلى شركة طيران الخليج إذ بدأنا سلسلة من الاضرابات المطلبية في مطلع العام 1970، وإذ كانت البحرين تمر بمرحلة سياسية انتقالية بعد ادعاءات شاه إيران... وكان اضراب مايو/ أيار 1970 من اهم الاضرابات التي شهدتها الشركة وعلى رغم انه استمر تسعة أيام ونصف من 1/5/ 1970 الى 9/5/1970، فإنه لم يحقق أهدافه في حينها لكنها تحققت لاحقا.

كان ذلك الاضراب من أنجح الاضرابات من حيث التنظيم وقد فاجأناهم به بعد كتابة الكثير من الرسائل الى مدير عام الشركة الأجنبي ولم يرد على أي منها. وقد جاءونا بفرقة الشغب في مقر الشركة في رأس رمان وهددونا بإطلاق النار، جاءنا إيان هندرسون والضابط هيكنز يستطلعان الأمر، تحدثنا معهما وقال حميد القائد أحد القادة العماليين لهندرسون ان هذا الاضراب صار بعد كتابة الكثير من الرسائل الى المدير العام من دون أية استجابة واننا مسئولون عن الاضراب شريطة عدم تدخل الشرطة وأوضحنا له اننا نريد الجلوس مع ادارة الشركة للتفاوض وهناك قانون عمل به آليات لحل أي نزاع بين العمال وأرباب العمل (لجنة التوفيق، لجنة التحكيم، قانون العمل 1957 ). انصرف هندرسون بعد ان وجد ان هناك رأسا لهذا التحرك يعرف ماذا يريد ويحسن المحاورة ومعلنا نفسه وليس سريا، وان ادارة الشركة تجاهلته تجاهلا تاما فاضطر إلى الإضراب. ثم جاءنا مدير ادارة العمل في موقع الاضراب متوعدا انه ستتم معاملتنا كما التعامل مع المضربين في بعض البلدان. وأرسلت المراسيل الى العمال في بيوتهم لثنيهم عن الاضراب، وتم تخصيص سيارات الشرطة لتوصيل بعض الموظفين الى عملهم في المطار، كان جواب العمال الاستمرار في الاضراب وتعطيل خروج باصات الشركة من مقرها في الشركة بافتراش الأرض لمنعها من الخروج في ذاك اليوم، كان الجو محتقنا ففرقة الشغب في اللوريات أمام مبنى الشركة في رأس رمان، والعمال في داخل المبنى ويسدون مدخل الشركة بافتراشهم المدخل وتحت أيدي العمال براميل البترول في قسم الصيانة وكل شيء قابل للانفجار. أضربنا وكان اضرابا سلميا ونريد أن نحافظ عليه سلميا، اقتربت من بوابة الشركة لأستطلع الأمر خارج المبنى، وإذا بالضابط المسئول يقترب مني فقد عرفني، فأنا صديق لعمه الذي اخترقت الرصاصات رجله في انتفاضة 1965 في مظاهرات مدينة الحد. وقال لي في لهجة لم تخل من العاطفة والحيرة: يا عبدالله انظر هؤلاء ويشير إلى شرطة الشغب، سيسحقونكم وإذا لم أكن أنا فسيفعل غيري وهؤلاء سيأتمرون بمن يأمرهم بإطلاق النار، تيقنت من صدق ما يقوله وحقيقة ما سيحصل إذا ما تم الصدام مع الشرطة، تشاورنا نحن اللجنة العمالية وقررنا إخلاء مدخل الشركة لتحاشي أية ذريعة للصدام مع الشرطة وإنهاء إضرابنا بالقوة. واجتزنا تلك المرحلة من الإضراب بالحكمة وبقيت الشرطة خارج المبنى وبقينا نحن داخل المبنى لعدة أيام ثم تم استدعاؤنا لمكتب مدير العمل واستقبلنا مدير العمل. وبدأنا نتبادل الحديث عن مطالبنا ورسائلنا التي لم ترد عليها ادارة الشركة ولم تكترث لما سيئول إليه الحال. حين تجاهل مطالب العمال، بعد تسعة أيام انفك الاضراب وكنا أنا وحميد القائد وعزيز جناحي آخر العائدين، بعد ذلك الإضراب وضعتنا إدارة الشركة والمخابرات في رأسها للإنتقام منا لاحقا، فتم اعتقال حميد القائد بعد شهرين (يوليو 1970) واتخذت ادارة الشركة قرارا بنقلي من المطار إلى المنامة ورفضت هذا القرار. واقترح أحد الإخوة القيام بعملية احتجاج وتضامن معي فرفضت الفكرة وقلت لنوفر قوانا للقادم، وقدمت استقالتي وقبلت فورا، وذهبت للعمل في شركة ديلونك ومبي في منطقة ميناء سلمان الصناعية

العدد 610 - الجمعة 07 مايو 2004م الموافق 17 ربيع الاول 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً