هل يكون الاجتهاد هو الرد العقائدي على فتاوى المنظمات والهيئات السرية المتطرفة؟ بداية لابد من تأكيد مسألتين: الأولى ان التطرف لا تعود أسبابه إلى الدين وإنما إلى تأويلات استنبطت من الواقع. وحين يكون الواقع سيئا ترتفع الأصوات البائسة واليائسة وتبدأ بطرح أفكار لا سند لها سوى الحياة المغلقة وانسداد آفاق المستقبل أمام الأمة. فالواقع ينتج فكره وأحيانا تأتي الأفكار لتبرير الواقع وتفتح أمام الإنسان الذي يعيش حياة العزلة طريق الانتحار.
والثاني ان الاجتهاد مدرسة للعلم والتفكر والتفقه. والمجتهد يجب ان يتميز بالشروط والمواصفات وغيرها من فروض وواجبات حتى يتمتع بموقع يسمح له بالاجتهاد. فالاجتهاد ليس رأيا في الدين أو تفسيرا عشوائيا لآية أو حديث وإنما هو أساسا يعتمد على مجموعة أنظمة وقواعد لابد من معرفتها والتبحر فيها حتى يتطور الرأي إلى نوع من الاجتهاد.
هناك في أيامنا الكثير من «الاجتهادات» أقرب إلى الرأي وتختلط فيها أمور الدنيا بأمور الدين، وتتداخل فيها التحليلات السياسية مع قراءات متسرعة لبعض الكتب الموضوعة في التفسير أو الفقه.
هذا النوع من «الاجتهادات» صنع بلبلة فكرية واخضع الدين لواقع معين وأعاد تفسير الآيات وفق اهواء مؤقتة يرجح ان تتغير في حال تبدل الواقع وظروف الفترة التي صدر فيها الحكم. وهذا أساسا يخالف وظيفة الاجتهاد. فالاجتهاد كما يقول الشهرستاني في «الملل والنحل» من «فروض الكفايات لا من فروض الأعيان» (الجزء الأول، ص 205). أي اذا اشتغل بتحصيله واحد «سقط الفرض عن الجميع». والمشكلة في عصرنا ان بعض أصحاب الفتاوى أسقط هذا الشرط معتبرا ان من حقه الاجتهاد من دون دراية وعلم محولا بذلك الأمر إلى «فرض عين». وهذا من الأمور المستحيلة. فكل مجتهد في الاسلام هو مسلم بالتأكيد وليس كل مسلم هو من المجتهدين. فالاجتهاد له شروطه وعلومه ومدارسه ومؤسساته وتراثه العميق الذي يضرب جذوره في تاريخ الأمة منذ بدايات تأسيسها.
واجهت الأئمة والعلماء منذ البدايات مشكلة الرد على أسئلة الواقع، وظهرت في صفوف المسلمين وخرجت عليهم الكثير من الفرق التي أولت بعض آيات القرآن واستنبطت منها تفسيرات وقراءات تدعو إلى قتل النساء والأطفال لغايات سياسية. فالسياسة دائما كانت تغلف (أو تعلّب) بالدين ويعاد انتاجها واطلاقها بطرق وأساليب لا تتورع عن ارتكاب الأفعال الشنيعة باسم الاسلام. وما نشهده اليوم في بعض الحالات شهده أيضا اسلافنا من العلماء والأئمة وردوا عليه بالاجتهاد. فالردود لم تقتصر على التصويب وتسديد المفاهيم والأخطاء وإنما كانت شاملة تناولت كل الشئون من عبادات ومعاملات وجنايات.
الاجتهاد في الاسلام له تاريخ ولابد من قراءة تاريخ الاجتهاد وتطور محطاته الزمنية حتى يتمكن علماء وأئمة أيامنا من اطلاق موجة اجتهادية معاصرة تنقل الاسلام والمسلمين من حال الدفاع ورد الاتهامات وتصويب الفتاوى إلى حال الهجوم الذي يعيد ترسيم صورة الاسلام في ضوء تطور الواقع واحتمالات المستقبل.
بدأ الاجتهاد بسيطا ثم تطور وتعقد وتركب من أنظمة وتحول مع الأيام إلى مدارس متكاملة لها قواعدها وأصولها وثوابتها ومتغيراتها. ولذلك نجح المجتهدون في الرد والاضافة والتعديل والتطوير في كل فترة زمنية حتى يكون الدين في حال تأهب دائم لاستيعاب الجديد وتجاوزه. ففي رأي المجتهدين ان الجديد اذا جاء وتقاعس العلماء والأئمة عن فهمه أو التعاطي معه تراجع دور الدين وموقعه في الدنيا وتغلبت المتغيرات على الثوابت. فالدين حاضر وليس ماضيا فقط. والماضي هو مرشد عمل للحاضر وليس بالضرورة هو البديل عنه. فالماضي مضى ويمضي أما الدين فهو الوجود الحاضر في ديمومته واذا تخلف عن الاستجابة للتحديات وتقديم الأجوبة تجاوزه الزمن وتخطاه.
الاجتهاد اذا في الماضي كان محاولة قراءة حديثة ومعاصرة لمستجدات الدنيا وبالتالي كان هو الجواب أو محاولة من الدين لاحتواء مختلف المتغيرات. وهذا ما لا نجده في عصرنا حين تخلف الكثير من العلماء والأئمة عن لعب هذا الدور التاريخي واعتبروا أنفسهم غير مكلفين القيام بمهمة الاجتهاد في وقت يضغط عليهم الواقع من كل الجهات.
التردد سيزيد من المشكلات ولن يساعد الأمة على النهوض من كبوتها. فالاجتهاد حاجة وهو ضرورة دينية تفرضها وقائع الدنيا وتحولاتها. وهذا ما ادركه السلف بعد ممانعة. فالأئمة في العهود السالفة مروا أيضا في حالات مشابهة وترددوا في الاستجابة لحاجات الزمن وضغوط الدنيا، ولكنهم وبعد فترة اقلعوا عن الوقوف في مقاعد المتفرجين ونزلوا إلى ساحة الاجتهاد وفازوا.
اختلف المجتهدون في أحكامهم ونشبت بينهم اختلافات كثيرة في الفروع وحصلت بينهم الكثير من المناظرات وصلت أحيانا إلى حد الظنون ولكنهم امتنعوا عن التضليل والتكفير واعتبروا ان كل مجتهد مصيب حتى لو أخطأ.
فالمهم برأيهم هو الاجتهاد شرط ان يلتزم بالاصول والقواعد، والزمن يتكفل باسقاط الاجتهادات أو احياء أحكامها. فالشطط والتطرف والمغالاة كان نصيبه التلاشي والاضمحلال وبقي إلى ايامنا منهج الوسط والاعتدال.
وعلى هذا تأسس الاجتهاد كوعاء يحتوي كل الفروع ويعيد ترتيبها على قواعد أصولية. فمعنى الأصول في البداية كانت تعني كل من تكلم في المعرفة والتوحيد، بينما معنى الفروع كانت تعني بداية كل من تكلم في الطاعة والشريعة. ثم تطورت شروط الاجتهاد فأصبحت الأصول لاحقا هي موضوع علم الكلام وتحولت الفروع إلى موضوع علم الفقه. وهكذا تحدد الاجتهاد ضمن شروط خمسة معروفة إلى أيامنا وهي: اللغة، تفسير القرآن، معرفة الأخبار بمتونها وأسانيدها، ومعرفة اجماع الصحابة.
هذه الشروط لابد ان تتوافر في المجتهد حتى يكون على علم ودراية بأصول الشريعة وقواعدها، وهي أيضا معروفة وتتلخص في الكتاب والسنة، والاجماع، والقياس. واضاف اليها الامام الشاطبي في القرن الثامن للهجرة مسألة «المقاصد» أي رعاية المصالح (المصالح المرسلة) وتحقيق غاياتها.
التشريع اذا ليس سرا فهو استنباط الأحكام الشرعية من ادلتها التفصيلية. فالكليات معروفة والجزئيات أيضا، فلماذا اذا يتخوف الأئمة والعلماء في عصرنا من الاجتهاد ومحاولة استنباط أو استقراء الجزئيات من الكليات لانتاج فقه معاصر يرد الحملة الظالمة التي تتعرض لها الأمة من الخارج والداخل.
تردد علماء وأئمة السلف كثيرا قبل خوض غمار الاجتهاد ولكن الزمن دفعهم دفعا إلى دخول حقوله الشائكة وفازوا، فهل يكون الاجتهاد المعاصر هو الرد العقائدي على فتاوى المنظمات والهيئات السرية المتطرفة أم يستمر العلماء والأئمة في صمتهم وترددهم؟
الاجتهاد «فرض كفاية»، والأجوبة ليست بحاجة إلى وقت ومزيد من التردد . فالزمن لا ينتظر بل يدفع دائما إلى التقدم والأمام. فمتى يبدأ علماء وأئمة عصرنا حملتهم المضادة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 609 - الخميس 06 مايو 2004م الموافق 16 ربيع الاول 1425هـ