نشرت صحيفة «الوسط» في عددها رقم 601 الصادر بتاريخ 29 ابريل/ نيسان 2004 في عمود «نقطة حوار» مقالا عنوانه («ماذا بعد...؟» المقرفة) بقلم الكاتب سلمان عبد الحسين، ورأيت ألا يمر المقال من دون وقفة أو مراجعة تدقق مضامين ما جاء فيه من عبارات وأفكار.
ماذا اسم استفهام مركب من (ما) الاستفهامية و(ذا) الإشارة، وهو يستخدم كسواه من أسماء الاستفهام الأخرى للاستعلام عما هو مبهم، أما (بعدُ) فهي ظرف زمان، وفي هذا تحديد لزمان الاستفهام، كما أن عبارة «ماذا بعد...؟» في السلوك السياسي لا تعتبر عبارة مقرفة، بل إنها منصفة إلى حد كبير، وأيما إنصاف، إذ تنصف السائل والمجيب. فما من أمر غير معلوم لأي أحد إلا ويبادر للاستعلام عنه والتعرف إليه، وخصوصا عندما تكون هناك شراكة في البين، وخصوصا في الواقع السياسي. فالشركاء يتناصحون ويتدارسون ما يشتركون فيه بكل حرية وانفتاح وشفافية.
إن استخدام عبارة «ماذا بعد...؟» التي «ذاع صيتها في واقعنا السياسي المعارض» كما جاء في إحدى عبارات المقال، تعتبر مؤشرا على ارتفاع درجة الوعي والنضج لدى مستخدميها عندما دعتهم الحاجة إلى استخدامها، وخصوصا أن المعارضة تتقدم بالخطة تلو الخطة والمشروع تلو المشروع والبرنامج تلو البرنامج وهي بحاجة إلى دعم ومساندة لإنجاح كل تلك المشروعات والخطوات، وليست تلك الاستفهامات والاستفسارات والاستيضاحات من لدن الرأي العام سوى واحدة من أدوات الدعم والمساندة، كما أن عبارات من قبيل «ماذا بعد...؟» ليست سوى عبارات تقويمية وتطويرية لما تحاول المعارضة إيقاعه أو تفعيله. وإذا كانت المعارضة تسعى إلى تحقيق نجاحات وإنجازات على الطريق بعيدا عن الاستهلاك السياسي أو تجنبا للوقوع في شراك السياسة المستهلكة فعليها أن تثمن وتحترم كل من يستخدم عبارة «ماذا بعد...؟»، إذ إن من أولويات إشهار أي مشروع أو برنامج أو خطة التأكد من درجة صلاحيته وفاعليته، وما عبارة «ماذا بعد...؟» إلا أداة تساهم في إحكام وتهذيب أي أمر يراد تبنيه أو طرحه.
ومن جهتها فإن المعارضة يجب أن تكون ممتنة لكل من صدع بهذه العبارة لأنها تساهم في كشف كل ما تتبناه من رؤى ومواقف واستراتيجيات لا يتيّسر لها أن تبادر إلى قسر الأفهام والعقول على وعيها إلا بهذه السبل والطرق، فأسماء الاستفهام مثل كيف؟ أو أين؟ أو من؟ أو ماذا؟ تغذّي الجسد المعارض بجرعات وعي ورشاد وبصيرة وثقة بكل ما تدعو إليه أكثر من أن تتسبب في الإصابة بـ «القرف السياسي».
وفي الجانب السياسي فإن واحدة من أهم الصفات التي يجدر بالسياسي التحلي بها بقناعة وليس بشكل ديكوري هي سعة الصدر، فإذا أراد أن يتصدى للشأن السياسي أن يقبل بروح رياضية من يخالفه الرأي وينقد رؤاه في هذه القضية أو تلك المسألة أو ذلك الموقف، فضلا عن استعداده للرد على كل من أراد الاستفهام أو الاستعلام عن طريق هذه الأدوات المشروعة وواحدة منها «ماذا بعد...؟». وإذا كانت هذه العبارة تسبب قرفا سياسيا فإن كثيرا من الحلول لكثير من المشكلات تتصف بالمرارة أو الألم أو الصعوبة التي لا تحتمل، ولكن كل هذه الحالات لا تمنع أو تثني من أراد تحقيق النتائج من التعاطي معها وقبولها قبولا حسنا من أجل الوصول إلى أفضل النتائج وأكثرها ضمانا على رغم مرارتها.
وإنني أختلف معك أيها الكاتب سلمان في دعوتك «إلى عدم تكرار هذه الكلمة في كل مناسبة» وخصوصا أنك تعلل دعوتك هذه بأنها «تسبب قرفا سياسيّا لا حدود له، وتئد الكثير من الخطوات قبل تمامها وتحرقها قبل أن تنضج...». إننا جميعا مدعوون إلى التمسك بكل أداة أو سلوك من شأنه الإسهام في تنضيج رؤى المعارضة وتثبيت خطاها وصون مشروعاتها في كل الأطوار ابتداء من طور الفكرة وانتهاء بطور التنفيذ حتى لا تأتي ناقصة أو مشوهة، فلا تجد طريقها للنجاح فضلا عن قطف الثمار.
كما يرجى منا جميعا ألا نساهم في وأد الوعي والنضج الجماهيري، عندما يبدأ بتلمس مفاتيح الترشيد والتوجيه نحو الصواب، كما تجدر الإشارة إلى أن لكل فرد الحق في أن يطرح ما يشاء، سواء أكان سؤالا أو استفهاما أو استفسارا أو اعتراضا أو تصورا أو فكرة أو نقدا، لأن في هذا تأسيسا للمنهج الديمقراطي في التعاطي السياسي، ليس بين المعارضة والسلطة فحسب بل بين المعارضة والمعارضة نفسها.
وإذا كانت هناك أشياء تسبب القرف السياسي بل والاجتماعي والأخلاقي فإن واحدة من هذه الأشياء ستكون ترديد التهم جزافا وتصنيف الناس في خانات يعلم الله وحده موقعهم منها، فما جاء في بداية المقال «وطالما يرددها - ماذا بعد؟ - من ينظرون للمكاسب سواء كانت سياسية أو غير سياسية نظرة آنية، ويرددها أيضا المستسلمون للواقع والمثبطون والراغبون في بقاء الأحوال على ما هي عليه بقصد أو غير قصد..إلخ»، يعد مؤشرا خطيرا على مسيرة العمل الديمقراطي الذي يفترض أن مناخه خالٍ من التخوين والتصنيف وإصدار الصكوك البيضاء أو السوداء بحق من ينتمي إليه، أيّا كان
إقرأ أيضا لـ "هادي الموسوي"العدد 607 - الثلثاء 04 مايو 2004م الموافق 14 ربيع الاول 1425هـ